الأبعاد الدينية والسياسية
لزيارة البابا ليو الرابع عشر إلى تركيا
بعد حوالي سبعة أشهر على انتخابه لمنصب الكرسي الرسولي، يقوم البابا “ليو الرابع عشر” بأول رحلة خارجية له، إلى تركيا للفترة من 27 إلى 30 تشرين الثاني، ثم إلى لبنان لغاية 2 كانون الأول من العام الجاري.
هذه الزيارة، بما فيها من محتوى، إلى تركيا تحملُ في طيّاتها معانيَ عميقةً، ذاتَ أبعاد استراتيجية طويلة الأمد، وترتكزُ على محورٍ عريق، يعود تأريخُه إلى 1700 سنة، إذ إنّ محورَ الزيارة الأساسي هو مراسيم إحياء ذكرى “مجمع نيقية” أو “مجمع إزنيك”.
ففي عام 325م، جمعَ الإمبراطورُ الروماني قسطنطينوس كافّةَ رجال الدِّين المسيحيّين في “نيقية” أو “إزنيك” بالقرب من مدينة بورصة الحالية، بعد أن كان قد تحوّلَ من الوثنية إلى المسيحية، وهو أول إمبراطور يعتنقُ المسيحيةَ، ويجعلُها دِينَ الدولة الرسمي.. جمعَهم لصياغة العقيدة المسيحية، وتوحيدها في قانون إيماني واحد، فقد كانت هناك ثلاثة اتجاهات عقائدية سائدة في ذلك الوقت: العقيدةُ الوثنية التي كان الإمبراطورُ يعتنقُها، ثم تركَها، وذابتْ هذه العقيدة بمرور الزمن، والعقيدةُ المسيحية التي كانت تَتمحْوَرُ في اتّجاهَين مُتضادَّين ومُتصارِعَين، اتّجاهٌ كان يَتبنّاهُ الحكيمُ الليبي آريوس الذي كان يرى أنّ السيدَ المسيحَ (عليه السلام) مخلوقٌ، عبدٌ لله ورسوله، وهو مَثَّلَ بذلك رُؤيةَ، أو عقيدةَ التوحيدِ، واتّجاهٌ آخر كان يَتبنّاهُ إثناسيوس الإسكندري، الذي كان يدّعِي أنّ المسيحَ هو الابنُ الأزلي من نفس جوهر الأب، وهو مَثَّلَ بذلك رُؤيةَ، أو عقيدةَ التثليثِ.
في المجمع، اصطدمتْ هاتان الرؤيتان، والنتيجةُ التاريخية حسمتْها السلطةُ السياسية في ذلك العصر، إذ وقفَ الإمبراطورُ قسطنطينوس إلى جانب أثناسيوس، فأصبح، بذلك، الإيمان بالتثليث هو العقيدة الرسمية. غير أنّ هذا الانتصارَ لم يَدُمْ طويلًا. فبعدَ عامٍ واحدٍ من المجمع، اعتنقَ قسطنطينوس آراءَ آريوس وأصبحَ تابعًا له.. ثم جاء ابنُه قسطنطيوس الثاني بعده، فتبنّى بدوره تعاليم آريوس، وبدأ ينشرُ عقيدتَه في كل أرجاء الإمبراطورية، إلّا أنّ السياسةَ الرسمية للدولة، وقناعات المؤثّرين على الكنائس في روما وبيزنطة، أعادتِ الكفّةَ لعقيدة التثليث، بعد صراعٍ مريرٍ، فتمّتْ صياغةُ العقيدة المسيحية، صياغةً لاهوتيّةً تحت مُسمَّى “قانون الإيمان النيقاوي”، والذي لا يزال يُتّبعُ في الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية الشرقية والأنجليكانية وغيرها حتى يومنا هذا.
واضحٌ أنّ قسطنطينَ الأول كان قد جعل الدِّينَ أداةً للدولة عبر مجمع نيقية، فعندما وصل الأساقفةُ إلى نيقية، كانوا يُمثِّلونَ مُجتمعاتِهم، ولكنْ حينما عادوا إلى مُدنهم، صاروا مُمثِّلِينَ لإرادة الإمبراطورية، فقد كان المغزى من جمع الأساقفة في مجمع واحد هو استخدام الدِّينِ لأغراضٍ سياسية وسلطوية، ولهذا نجدُ أنَّ كلَّ الحَملات الصليبية كانت قد تبنّتْها الكنيسةُ.
زيارةُ البابا ليو الرابع عشر إلى نيقية لإحياء الذكرى الـ(1700) للمجمع الذي صاغ “قانون الإيمان النيقاوي” والذي وَحَّدَ العقيدةَ المسيحية الشرقية والغربية، تهدفُ إلى الترويج لفكرة مشروعٍ يستوعبُ كافّةَ الكنائس الشرقية والغربية، تَتوحَّدُ المسيحية فيه تحت راية واحدة، وسلطة واحدة، باعتبارِ انتماءِ كافّةِ المسيحيّينَ لرَبٍّ واحدٍ، ولعقيدةٍ واحدةٍ، ولطريقةٍ مَعموديةٍ واحدةٍ، كما هو مُدرَجٌ في شِعار الزيارة الرسولية، أدناه:

الترجمة:
البابا ليو الرابع عشر
زيارة حوارية (رسولية) إلى تركيا، نيقية 325-2025
27 نوفمبر- 30 نوفمبر
رب واحد، عقيدة واحدة، معمودية واحدة
هذا المشروعُ السياسيُّ، ذو القالب الدّيني، الذي يسعى البابا ليو الرابع عشر إلى ترسيخِه انطلاقًا من نيقيا في زيارته هذه، له بعدان رئيسيان: البعدُ الأول القريب هو احتواءُ الكنيسة الأرثدوكسية الروسية وإذابتُها في هذا المشروع، وتجريدُ بوتين من غطائِه العقائدي الذي اعتمدَ عليه في مشروعه القومي الدّيني، واحتواءُ بطريركية القسطنطينية الأرثدوكسية الشرقية في إسطنبول، وإذابتُها في هذا المشروع، وتحريرُها من سلطة الدولة التركية.. أما البعد الثاني البعيد، فهو الإعدادُ المبكر من هذا القرن، للقرن القادم، لتوحيد العالم المسيحي دينيًّا، لهدفٍ سياسيٍّ، تُديرُه الجهةُ، أو الجهاتُ التي دفعتْ لتحقيقِ هذه الزيارة، والتي تخشى مدًّا إسلاميًّا لا ساميًّا في العالم، خلال القرن القادم، وليس غريبًا أنْ يتزامنَ هذا المشروعُ مع مشاريعِ القوانين التي وَصمتِ “الإخوان المسلمون” بالإرهاب، لمنعِهم من الوصول إلى السلطة في المدى القريب والبعيد، كنموذجٍ لمشاريعَ تَحييدِ التياراتِ الإسلامية المعتدِلة قبل المتطرِّفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
كلُّ الكنائسِ الرئيسية في العالم تدّعي العراقةَ والعمقَ التأريخي من خلال إيحائِها بانتمائِها التأسيسيِّ لحواريٍّ مُؤسّسٍ (Apostolic Founder)، فالكنيسةُ الكاثوليكية في الفاتيكان تدّعي انتماءَها للقديس بطرس، والكنيسةُ الأرثدوكسية الشرقية في إسطنبول تدّعي الإنتماءَ للقديس آندرياس، وبطريركيةُ الإسكندرية تدّعي انتماءَها للقديّسَينِ بطرس وبولس، أما الكنيسةُ الهندية فتدّعي انتماءَها إلى القِديّس توماس.. فهل يستطيعُ البابا ليو الرابع عشر، ومَنْ سيأتي بعده من الباباوات، توحيدَ الكنائس المسيحية، بعد الانشقاق الكبير بين الكنيستَينِ الكاثوليكية والأرثدوكسية عام 1054م، وتحويلَ ولاءاتِها للفاتيكان؟ والأهم من ذلك: هل تسمحُ السلطاتُ السياسيةُ في تلك الدول بخروجِ تلك الكنائس عن ولائِها وطاعتِها؟ خاصة وأنّ هذا المشروعَ هو مشروعٌ سياسيٌّ، أكثر من كونه مشروعًا دينيًّا، في نظرِ سلطاتِ تلك الدول، وهل وضعَ البابا، ومَن يساندُه في الرحلات الرسولية هذه، بحسبانِه ذلك الصراعَ العقائدي المُحتَدِمَ الذي جَرى في مجمع نيقيا بين عقيدة التوحيد وعقيدة التثليث، بين آريوس الليبي وإثناسيوس الإسكندري، ليستقيَ منه الدروسَ أثناءَ مساعيه لِتَحيِيدِ التيّارِ الإسلاميِّ السنّيِّ اللّاسامِيِّ، الذي تمَّ استهدافُه من قِبَلِ مَنْ يُخطّط لنظامٍ عالمي جديد؟
هناك تفاهمٌ مُتنامٍ بين المسيحيين والمسلمين، بِوتائرَ مُتفاوتةٍ، سواءً على صعيد المراجع الدينية، أو النخبوية، أو بين الشباب، أحياهُ البابا السابق فرانسيس من خلال نهْجِ الصداقة والقوة الناعمة الذي انتهجَه، والذي يبدو أن البابا ليو الرابع عشر يسيرُ عليه، بل ويَسعى إلى ترسيخِه واستدامتِه، إذ سيعملُ على تنشيطِ وخَلْقِ هياكلَ مُستدامةٍ من أجل هذا التفاهم المُتنامي بين المسلمين والمسيحيين، إلّا أنّ تَسيِيسَ هذا التوجّهِ سوف يضُرُّ هذه المساعيَ، فالمسلمون والمسيحيون، على السواء، سَئِمُوا استغلالَ الدِّينِ لأهدافٍ سياسيةٍ، وسوف تَحومُ علاماتُ استفهامٍ كثيرةٍ حولَ الرّحلاتِ الرّسوليةِ هذه.
ويُمكنُ لهذه الزيارة أنْ تُعزّزَ دعواتِ البابا ليو الرابع عشر للتوافق والحوار في الشرق الأوسط، مُتمِّمةً ما بدأتْه زياراتُ البابا فرانسيس الرسوليةُ، فمقبوليةُ الفاتيكان لدى كافّة الأطراف الفاعلة في العالم تُؤهّلُ البابا لأداءِ دورٍ فاعلٍ لإحلال السلام في العالم، إذا ما صانَ هذا التوجّهَ من الاستغلالِ السياسي داخلَ المؤسّسةِ الدينية أو خارجَها.
وتجيءُ زيارةُ البابا للبنان ضمنَ مِحور السلام ودعواتِ الحوار والتوافق، إضافةً إلى جولات الحجّ واللقاءات الدينية مع الطوائف المسيحية، بهدفِ التقارب والتفاهم، وختمَ البابا رحلتَه بصلاةٍ صامتة في ميناء بيروت، في المكان الذي دمّرَ فيه انفجارٌ مروّعٌ لمخزنِ الأسمدة والمتفجرات في صيف 2020 أحياءً بأكملِها وأودى بحياة حوالي 200 شخص، في إشارةٍ منه إلى فتحِ صفحةٍ جديدةٍ في لبنان، خاليةٍ من سلاح حزب الله، وإنشاءِ دولةِ مواطنةٍ ذاتِ سيادةٍ، ممّا دفعَ بحزب الله إلى إرسال رسالة للبابا، يتّهمُ فيها إسرائيلَ ويدعوه للتّأثيرِ عليها، وإيقافِ هجماتِها على لبنان.. وبهذا الصّدد، لا بُدَّ من الإشارة إلى أنّ الفاتيكانَ مُهتَمٌّ بلبنان اهتمامًا استراتيجيًّا، وينظرُ إليه على أنّه نموذجٌ تجريبيٌّ لنجاحِ التعايُشِ بين الناس من مختلف الديانات، في كل أنحاء العالم.
وقد تفاوتتِ المواقفُ في تركيا من الرحلة الرسولية هذه، ففي حين ترى الحكومةُ التركية في هذه الزيارة فرصةً لتعزيز العلاقات مع العالم المسيحي، والتقاربِ بين الحضارات، يعارضُ بعضُ التيارات القومية والدينية هذه الزيارة على اعتبارِ أنّها تُمثّلُ تَدخُّلًا في الشؤون الوطنية والثقافية، وتحملُ رسائلَ سياسيةٍ مُحتمَلةٍ تتجاوزُ الطابِعَ الدّينيَّ.
وقد شاركَ العديدُ من الطوائف المسيحية التركية، من الروم الأرثوذكس والموارنة والأرمن والكلدان والسريان، رأيَ الحكومةِ التركيةِ في زيارة البابا على أنّها دعمٌ معنويٌّ لها، يزيدُ من حضورها الاجتماعي والثقافي، لكنّ الطائفةَ الأرثودكسية التركية عبّرتْ عن رفضِها الصريح لها، ووصفتْها بأنّها عملٌ سياسيٌّ مُقنّعٌ برِداءٍ دِينيٍّ، كما أنَّ التيار اليساريَّ الأتاتوركي هاجمَ الحكومةَ على قبولِ هذه الزيارة التي رفضتْها الحكوماتُ السابقةُ، منذ تأسيس تركيا الحديثة.
الفاتيكانُ في المِحَكِّ.. فإذا كانتْ دعواتُه للحوار والسلام والتعايش دينيةً روحيةً بحتةً، واقتنَعتِ الطوائفُ المسيحيةُ، قبلَ غيرها، بالنوايا الصادقةِ، فإنّه سيؤدّي، حتمًا، دورًا قياديًّا فاعلًا في عمليةِ سلامٍ شاملةٍ، وإلّا، فاستغلالُ الدِّينِ لأغراضٍ سياسيةٍ، منبوذٌ عند المسيحيّينَ، قبل المسلمِينَ.. وهذه فرصةٌ، أرجو أنْ يُثبتَ الفاتيكانُ قُدرتَهُ على إقناع الآخرين بِروحانيةِ دَعواتِهِ، وصِدقِ نَواياه، وحِياديةِ مَساعيهِ السلّميةِ.