عراقيون تستذكر الراحل الشاعر محمد مردان

*بهجت درسون

في 2 آب من عام 2016 رحل عن عالمنا الشاعر الكبير محمد مردان الذي ولد في كركوك 1939 ، وعاش في الموصل لأكثر من اربعة عقود من الزمن. كتب الناقد العراقي الدكتور محمد صابر عبيد عن شعر مردان قائلا: “يتميز شعر محمد مردان بقدر عال من الحيوية والفرادة والخصوصية، فهو يذهب إلى منطقة الاقتصاد الشديد في اللغة حتى يشعر القارئ أنه لا يمكنه مطلقا أن يتخلى عن أية مفردة من مفردات القصيدة، فالتعبير الشعري لديه ينطوي على قدر من القسوة الشعرية في تحميل الدال رؤية متموجة يتوجب عليها إيصالها ضمن حدود التدليل المسموح بها، ثمة هيمنة كبيرة للوعي الشعري الدينامي على حركية الجملة الشعرية في قصيدته، تنحو بالصورة الشعرية إلى مستوى بالغ التكثيف عبر مهارة تشكيلية تقصي الزوائد الديكورية لتكتفي بالمادة الصورية الأصل الداخلة في رسم الصورة.”

ومن الجدير بالذكر أن الأعمال الشعرية الكاملة احتوت على الدواوين التالية: أسفار الشجر، ثانية يتألق الإشراق، الوقوف بين الأقواس، الأيادي القصية، ليكن حبك رصاصة الرحمة، أناديك..فتأتي القصيدة).

ومحمد مردان دكتوراه في القانون – القسم العام، وهو عضو اتحاد الأدباء والكتاب في العراق وعضو اتحاد الأدباء العرب وعضو اتحاد الأدباء التركمان، ولديه أعمال أخرى منها: ملامح من الشعر التركماني ج1- من إصدارات وزارة الثقافة والإعلام سنة 1985، وملامح من الشعر التركماني ج2 – من إصدارات نادي الأخاء التركماني / بغداد 1987، أغاني وطقوس التركمان، من إصدارات مكتبة آوجي في كركوك سنة 2002 ، نماذج من المسرح التركماني من إصدارات نادي الأخاء التركماني / بغداد 2008، تيار الشعر الشعبي التركماني من إصدارات الشاعر الخاصة، مطبعة توركمن ديلي – كركوك ، سنة 2008، حكاية آرزي وقنمبر مع دراسة في ضوء المنهج المورفولوجي، منشورات مطبعة الانتصار 2008.

وبعد وفاته صدر عن اتحاد الادباء والكتاب فرع نينوى ديوان ” ما بعد منال” وزع الديوان على الحاضرين في حفل تأبين في قاعة قنطرة بعد عام من وفاته.

…………………………………………………..2

يوميات

د. محمد مردان

حتى السفن تغرق في حزني

فلتترجل عن تلك الوجبات التي

تقطنها المواقد

ولتركض فيك الطرقات، حافيةً

حدّ الهذيان

لم أكن أريد لبعضي

أن يكون جليدياً

فمن يدري

لماذا تنتحر الحيتان؟

ولماذا تقذف السماء بفلذاتها

إلى الهاوية

لو أن هذا الثلج يذوب، لأرى

أي سماء حلّت في خاصرتي

أبتعد عنّي

فأراني أتبع ظلّي

فيا سيوف خذيني

فالأمطار تأبى أن تصفق إلا

بعد أن تراني مصلوباً.

أموت بلا موت

أقرأ مدونات الإسفلت

استبيح الشوارع بلا اكتراث

فلا أرى في المدينة فراسخ

تقوى على المنازلة

على الورق

أبدأ حواراً مشنوقاً

ولا أجد طواحين هواء

تسرد لي يومياتها

كأنها جنديّ من ضباب

فيا أيها البياض الممرد

لا تأتني راجلاً

فقد أكون سفيراً

في نهارات أخرى

لا يكون فيها الماء ماء

يصلّي فيها السبات

ويصطلي الفراغ

مثل سؤال بلا مساء

فماذا بعد المطر؟

………………………….3

الدكتور محمد مردان/ (ما بعد منال) مرثية الشاعر الأخيرة

*فاروق مصطفى

(ما بعد منال) كتاب شعري لـ (محمد مردان) صدر ضمن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في نينوى في أربع وسبعين صفحة، هذا الكتاب الشعري ضم قصيدة مطولة يبدو أنها من أواخر ما خطها الراحل.

كان آخر إصدار للشاعر في حياته هو مجموعته الشعرية (منازل الغرق)، أما كتابه الأخير فلم ير النور إلا والشاعر نشر أشرعته وغادر الوجود، القصيدة إذن من مطولات (محمد مردان) بث فيها تباريح أسئلته الوجودية, هذه الأسئلة التي كانت تقض مضجعه خاصة عندما تشيخ السنوات ويتقدم العمر ويوحى للإنسان بأن ما كان بعيدآ قد قرب، فلا يبقى أمام الشاعر سوى أن يكتب فهو بكتابته يبعد عنه أشباح الظلام، وبالدماء التي ينزفها القلب يفهرس الشاعر عالمه ويهندس فضاءاته بهذا النزيف, يقول (مردان):

“ما أكتبه ليس إلا نزيفي الذي تمرد”

استهل مطولته بـ (ألا تأتين) وتجيء (ألا) حرف تنبيه واستفتاح, وتستعمل للعرض وهو طلب برقة ولين وكياسة, وتجيء مركبة من همزة الاستفهام و(لا) النافية فتدل عند ذاك على التحضيض و(ألا تأتين) هذه اللازمة التي تتكرر مع بدء كل مقطع جديد هي بمثابة توكيد وإخبار جازم بأنه يعاني من وحشة الفراغ التي خلقتها (منال) بغيابها وترْك الشاعر يعاني من أوجاع هذه الوحشة المؤلمة، فلهذا يعود الشاعر إلى تكرارها من أول المطولة إلى آخرها وهو يذكرنا بقصيدة الشاعر الأندلسي (غارسيا لوركا) التي كتبها في رثاء صديقه مصارع الثيران (اغناثيو) الذي وقع صريعآ في حلبة مصارعة الثيران (في الخامسة عند الأصيل) فـ (لوركا) يكرر لازمة (في الخامسة) عندما صرع الثور هذا المصارع الشجاع وتتكرر هذه اللازمة على طول القصيدة (في الخامسة عند الأصيل).

عندما غادر (محمد مردان) مدينته كركوك كان قد كنز العديد من المشاهد الكركوكية والكثير من معالمها، خزن (القلعة) وشجرة النبق التي تنزف من ثمارها دماءً بشرية ونهر (الخاصة) الفائض أيام الربيع، والراكد مع مقدم الصيف، فهرس (عرفة) وبيوتها المشيدة من الطابوق الأصفر، وكذلك عاش فترة من طفولته وصباه على نهر (الزاب) في بلدة (الدبس) القريبة من كركوك، هناك تولّه بحب هذا النهر وعشق حكاياته وأحب الارتياض على ضفافه فهو هنا في هذه المطولة الشعرية يعود مرة تلو الأخرى إلى كنف هذا النهر، يقول الشاعر:

“الزاب الصغير يتهيأ ليفيض كعادته، من له لتضل عليه وهو يهذي”

يقول (البير كامو): “إن لكل كاتب أصيل نبعآ واحدآ يغذيه طوال حياته”

فهذا النبع بالنسبة إلى (مردان) فهو كركوك وما جاورها من مباءات، وإطلالته على نهر الزاب تعكس حنينه إلى أيام الصبا، وكلما كان هذا النهر دافقآ بمياهه شعر بالسعادة والاغتباط ولكن مع انحسار المياه من حوله عم الحزن البلاد، يقول:

“انحسر نهر الزاب وانزوى

لم تغتسل شوارع (عرفة)

عمّ الرماد في البلاد, القلب بلا زاد

ينتظر القيامة”

و(منال) هذه الأنثى الخالدة بفتنتها وفتونها تلهم الشاعر هذه المطولة التي تمتد عبر العديد من الصفحات, الأنثى التي تحتجب عنه وبانتظارها تحترق أيامه وتتكوم مع دوران الأرض وتعاقب الليل والنهار، ويعيش مع لقائها بشعره وذوبانهما في بوتقة واحدة فلهذا يهتف ويعلن تماهيه في الطريق إليها، طريق (منال) المسورة بالشعر:

“شيئان يأخذان بتلابيبي إلى الجنون انتِ والشعر”

“من هذا الذي يكتبني, القصيدة أم أنتِ أم كلاكما”

وبانتظار إطلالتها لمحو الأسى وإجلاء الأحزان الشاعر يعيش شتاء العمر وعيناه على الباب لعل خبرآ يقدم منها وعلى أمل أن ينجلي الشتاء، وإذا هو ينداح إلى شتاء آلم وافجع يقول: “وأمامك شتاء مخضرم يأبى أن ينجلي إلا لشتاء أقسى” وعندما يتيقن بأنه غدا مطوقآ بهذا الظلام المكثف تنحبس عنه الأمطار، هنا يرتفع حنينه إلى حكايات أمه وحوادثها الخرافية كي يزيل الطلاسم والألغاز عن نهر الزاب حتى يستعيد عافيته وتدفاقه:

“لو أعرف المكان الذي حبس فيه المطر لاستعنت بالطير الخرافي في حكايات أمي وحررت نهر الزاب من براثن الغياب”.

من مرجعيات الشاعر القرائية يوظف (غراب) ادغار الان بو، والغراب من أشهر قصائد الشاعر الأمريكي والتي تتكرر فيها لازمة (نيفر مور) من مقطع إلى آخر ونجد أحد أسطره يتناص مع شعر ت . س . اليوت يقول (مردان):

“كل الأمم احتفلت باليوم الجديد إلا أنا فابتدائي لا يعني إلا انتهائي”

وعندما يقول: “أنا لم أزل رهين سجون لا محبسين” إشارة إلى أبي العلاء المعري الذي كان رهين عماه وعزلته التي فرضها عليه، ويلحظ الناظر في هذه المطولة أن الشاعر يوظف اسمه الشخصي فيها بقوله “لا يا محمد مردان لئلا تفوتك نظرة تترقبها من أمد” وهذه التقانة وأعني توظيف الأسماء الشخصية شاعت عند أدباء (جماعة كركوك) سواء عند الذين تعاطوا كتابة الشعر أو مارسوا تعاطي الأجناس السردية.

بقي أن أقول بأن الشاعر يتماهى في عشق (منال) وفي لغة صوفية مشرقة يعلن ذوبانه العشقي فيها:

” الحب لغة كل اللغات “

منال = محمد مردان

ولكنها تظل بعيدة بعد المنافي النائيات، ينتظر ويتآكله الانتظار ويبلغ الظمأ أشده عند ترقب الطرقات، تزداد عزلته ومن طول هذا الترقب “تحولتُ إلى شجرة معمرة يستظل العشاق في فيئها الشاعري”.

ويختتم الشاعر نصه الماتع بـ (ستأتين ) ثلاث مرات باستعماله حرف (السين) الذي يفيد الاستقبال، إلا أنه يتدارك واقعه بهذا الاستفهام الزماني (ولكن متى؟) ويزيد “إني أكاد أن أحتضر” مع تخيل بأن (غراب) ادغار الان بو الذي حط على نافذة غرفة الشاعر ـ وللعلم بأننا نتشاءم من هذا الطائر وصوته النعيق ـ وهو يصرخ نيفير مور ، نيفير مور، ومعناها التقريبي (أبدآ بعد اليوم) أو كما ترجمها (يوسف الخال) ما مضى لن يعود.

جريدة عراقيون / العدد ٥٦٠ السنة السادسة عشر الثلاثاء ٣ – ٩ – ٢٠١٩ / ص5 ثقافية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *