تركيا بين صراع الحدود وتمدد النفوذ الإقليمي / صادق علي حسن

 

أصبحت مدينة الموصل العراقية تمثل لتركيا ذلك التوازن الجيوبولتيكي مع بعض الدول الإقليمية، فحين ننظر إلى هذه المدينة العراقية من جانبها الجغرافي؛ يتضح لنا مدى أهميتها، لا من حيث مساحتها أو حجم سكانها أو مواردها، وإنما من حيث موقعها الحيوي؛ إذ تتشاطر حدودها مع مساحتين جيوبولتيكيتين في منطقة الشرق الأوسط، هما: تركيا، وسوريا، وهذا ما يعكس قيمتها وأهميتها باعتبارها مركزًا مهمّاً جغرافياً وتاريخياً وثقافياً واقتصادياً.

 

إن هذه الأهمية التي تحظى بها مدينة الموصل، جعلت منها هدفاً رئيساً للقوى العظمى التي تأمل في استغلال مزاياها من أجل توسيع نفوذها، بما في ذلك القوة التركية التي ترى فيها ـ كما ذكرنا سابقا ـ مركزا لتحقيق التوازن الجيوبولتيكي مع بعض الدول الإقليمية. كما أن الطرف الإيراني يسعى إلى إضعاف توازن القوى الإقليمية، من خلال دوره في هذه المدينة العراقية والمنطقة الحدودية الشمالية.  ورغم ذلك، فإن صناع القرار في تركيا مصرون على جعل مدينة الموصل بؤرة لترجمة تطلعاتهم الإقليمية والدولية، واتخاذها نقطة حيوية للتوسع الإقليمي سياسيا واقتصاديا.

 

ووفق هذا الوضع، أضحت تركيا تلعب أدوارا متناقضة في العراق، مما ساهم في تعقيد المشهد الإقليمي، وأربك عدة أطراف في تواصلها مع الطرف التركي، خاصة بعد تعبيرها عن مستجدات موقفها في ما يخص المسألة السورية، إذ وبعد أزمة الاعتصامات التي اندلعت في تركيا عام 2012، تجنبت الحكومة التركية وضع الجماعات الإرهابية (جبهة النصرة وتنظيم داعش) في خانة الإرهاب، لسببين رئيسين: الأول: أن تركيا ومنذ انطلاقة الأزمة السورية، سعت إلى استغلال هذه الجماعات كأداة لإسقاط النظام السوري، فجعلت من أراضيها مأوى وممراً لها، حتى أن الاستخبارات التركية تورطت في دعمها، من خلال التغاضي عن عبور المقاتلين من مختلف مناطق العالم للأراضي التركية؛ أثناء رحلتهم إلى سوريا. أما الهدف الثاني فيتلخص في سعى تركيا توظيف تركيا تلك الجماعات؛ من أجل محاربة أكراد سوريا، علما أن أنقرة تعيش حالة قلق مزمن تجاه القضية الكردية داخليا وخارجيا، زيادة على علاقاتها المعقدة مع حكومة إقليم كردستان العراق، دون أن ننسى مستجدات الوضع، والمتمثلة في قلقها من تبلور إقليم كردي بشمال شرق سوريا، يديره حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي القريب من حزب العمال الكردستاني.

 

إن خطر توظيف الجماعات الإرهابية بشكل روتيني، لتحقيق مصالح خاصة؛ قد يرتد إلى تركيا ذاتها، فبعد فترة من تحقيق بعض المكاسب السياسية والاقتصادية، تعرضت تركيا لعدد من الهجمات الإرهابية في الداخل؛ منها: تفجيرات “ساحة السلطان أحمد”، وتفجيرات “شارع الاستقلال”، إضافة إلى تفجيرات “مطار أتاتورك”. كما أن الخلافات التي نشبت بين إدارة “أوباما” وحكومة “أردوغان” على خلفية دعم الأخيرة للجماعات الإرهابية؛ أرغمت أنقرة على التسليم بالأمر الواقع، حيث أجبرت على تصنيف الجماعات المتواجدة في العراق وسوريا؛ ضمن خانة الإرهابيين.

 

وحين بدأت التحضيرات لعملية تحرير الموصل؛ توقع بعض المهتمين أن تكون عملية سهلة نسبياً، نتيجة التنسيق بين القوات العراقية والبيشمركة وقوات التحالف الدولي التي ستساهم بضربات جوية مكثفة على مواقع تنظيم “داعش” بتلك المدينة.

 

وخلال ذلك، أدركت تركيا خطأ هذا القرار، قرار تحرير الموصل، ذلك لأنها ـ حسب وجهة نظرهاـ ستقطع خط الاستفادة من بعض الجماعات الإرهابية. ولهذا سارعت لتدارك الأمر، من خلال خطوة متقدمة جريئة تجاه الموصل، تدعم نفوذها بالمنطقة، وهي الخطوة التي كانت صادمة للطرف العراقي. ويمكن القول أن هذا التدخل التركي في مدينة الموصل، كان يسعى لتحقيق ثلاثة أهداف:

 

أولا: استمرار ممارسة سياسة الحرب الناعمة عبر البعد الأيديولوجي، مستفيدة من عوامل تاريخية وجغرافية لدعم بعض القوى الداخلية، حتى تتمكن من تثبيت وجودها كقوة إقليمية، وحتى تحقق أهدافها المرجوة بالمنطقة.

 

ثانيا: سعيها إلى استغلال قضية الموصل لإشغال الرأي العام التركي بقضايا خارجية بعيدة تمام البعد عن الواقع الداخلي. خاصة وأنها اتخذت عدة إجراءات لمواجهة التحديات الداخلية التي برزت بعد الانقلاب الفاشل الذي وقع في الخامس عشر من يوليو 2016، كان من أبرزها؛ إعادة هيكلة المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والتعليمية، وبقية أجهزة الدولة المهمة. وهذا تحد كبير يتطلَّب وقتاً لتجاوزه، فضلاً عن وجود مواجهات مسلحة مع قوات حزب العمال الكردستاني التي تقتنص الفرص لزعزعة الاستقرار السياسي التركي.

 

ثالثا: خلق فرصة لمواجهة مباشرة بين تركيا وبعض القوى الإقليمية، بغية تصفية الحسابات ومواصلة الصراع على أرض بعيدة عن الداخل التركي، حتى ترسل رسالة واضحة للشعب، مفادها أنها حكومة قوية قادرة على الدفاع عن الداخل، مع إمكانية تحقيق زعامة في الشرق الأوسط، وفي ذلك نزعة تاريخية تواقة لإعادة تشكيل الإمبراطورية العثمانية وحنين للإرث التاريخي بالموصل، والتي تعتبر في نظر الأتراك جزءاً من أراضي وطنهم.

 

تعتمد القوة الناعمة لتركيا على فلسفة اقتصادية توسعية ذكية، تسعى من خلالها الصفوة الحاكمة؛ إلى التحكم في المنطقة، حيث دعمت تنظيم “داعش” من خلال شراء النفط المهرب. ويستخدم هؤلاء المهربون عدة طرق لنقله خارج مناطق النزاع، من خلال التنويع في وسائل شحنه (الشاحنات الناقلة، شاحنات صغيرة، والجراكن التي تحملها البغال، وأنابيب مؤقتة، وحتى الطوافات عند عبور الأنهار)، كما أن أغلب المشترين؛ هم من أصحاب الشركات الصغيرة، أو شركات النقل بتركيا، والذين يتمركزون بالمثلث العراقي ـ السوري ـ التركي، حيث يشترون النفط الخام، تمهيدا لنقله إلى الأراضي التركية، وما يشجع هؤلاء الوسطاء الأتراك على ذلك؛ هو انخفاض أسعاره بشكل كبير، حيث تصل إلى ما يقارب العشرين دولارًا (20$) للبرميل الواحد.

 

إن هذه العلاقة الحميمة بين تركيا والجماعات الإرهابية كانت نتيجة لاستغلال التوتر القائم بين الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان، والحكومة العراقية، وهو التوتر الذي تمخض عن تضارب الأهداف السياسية بين البلدين، إذ تتخوف تركيا من إمكانية حصول الكرد في العراق وسوريا على امتيازات قومية، لما في ذلك من خطر مباشر على استقرارها، كما أنها عملت على استغلال الصراعات الإقليمية، فقامت بتوطيد علاقاتها مع حكومة إقليم كردستان، ولاسيما من خلال حجم التبادل التجاري وزيادة الاستثمارات في عدة مجالات.

 

أن أهم ملامح التدخل التركي في العراق، هو تحول المنطقة الجغرافية المتمثلة بالحدود التركية العراقية إلى تبعية تركية اقتصاديا وسياسيا. ترتكز قوة تركيا في علاقاتها الدولية على إيمانها الراسخ بأن المبدأ الأساسي لتحقيق السلام والعدالة لا ينحصر في العمل الدبلوماسي فحسب، وإنما يتعداه إلى الاعتماد أيضاً، على عنصر الحرب والصراع، من خلال إدارة الصراع الاستراتيجي عن طريق فاعلين غير مرتبطين بأية دولة، حيث تقوم بمهمة العبث بجميع القوى الإقليمية لصالح القوة الكبرى؛ حتى تتمكن من بسط نفوذها، ومن تقديم نفسها بوجوه متعددة؛ للتعامل مع العديد من الدول ومراكز القوى بالمنطقة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *