البيئة السنية رفضت داعش ولفظت خلافته المزعومة هارون محمد
الهزائم العسكرية الأخيرة التي لحقت بتنظيم داعش من قبل الجيش والقوات المشتركة خصوصا في الجانب الأيسر من الموصل، جاءت في جانب منها، نتيجة نفور السكان المدنيين من تصرفات أعضائه وانتهاكات مقاتليه.
بعد أن سقط تنظيم داعش سياسيا واجتماعيا خلال الشهور الثلاثين من احتلاله للموصل، في أعقاب رفض المدينة السنية العربية، لخلافته المزعومة وامتناع نخبها الفكرية والعلمية والعسكرية والمجتمعية وشيوخ عشائرها عن التعاطي معه، لما يحمله من منهج متطرف وخطاب متشدد وسلوك متوحش، فإن انهياره العسكري في العراق بات متوقعا خلال الفترة المقبلة لا محالة، ولم يعد أمامه غير الانكفاء إلى الحدود السورية التي جاء منها، أو الضياع في البادية الشمالية يداري جراحه ويكون في الوقت نفسه صيدا سهلا لطيران التحالف الدولي والعراقي والتركي، وربما الروسي أيضا.
ولعل أكبر الأخطاء القاتلة التي ارتكبها التنظيم عند احتلاله الموصل في العاشر من يونيو 2014، أنه صدق أن مسلحيه الـ(300) تمكنوا من السيطرة على المدينة العراقية الثانية بعد العاصمة بغداد، بفضل كفاءتهم القتالية ونجاعة خططهم العسكرية، رغم أنه كان يدرك تماما، أن فوجا من الفرق العسكرية الثلاث التي كانت تتمركز في أم الربيعين، لو تحرك وتصدى لعناصره أو شاغلها على الأقل، لما أمكن وصول مقاتليه إلى ضواحي المدينة، ولكنها المؤامرة التي تخادم في نجاحها وتعاون على تنفيذها نوري المالكي وجنرالاته الستة الذين انسحبوا بأمر منه، دون إطلاق رصاصة واحدة على المهاجمين الذين ضربتهم الدهشة، من كثرة الأسلحة والآليات العسكرية المتروكة في الشوارع والساحات والمستودعات وأعداد منها كانت بـ”كريزها” وهي مفردة شعبية يتداولها العراقيون في توصيف البندقية أو الآلة الجديدة التي لم تستخدم سابقا.
وكان الخطأ القاتل الثاني الذي وقع فيه التنظيم، أنه توهم أن شعب الموصل، نتيجة ما عاناه من انتهاكات جلاوزة المالكي وتجاوزات أجهزته الأمنية، سيهبّ للترحيب بمسلحيه والاحتفاء بهم، غير أنه فوجئ بأن الموصليين ليسوا كما خيل له، فقد أظهروا منذ الساعات الأولى لاحتلال مدينتهم، عزوفا عن الانخراط في صفوفه أو التعاون مع قواته، حتى أن قادته أمضوا ثلاثة أسابيع يفاوضون ضباطا سابقين وقادة متقاعدين، لإقناعهم بقبول منصب المحافظ وقيادة وحداته، دون أن يجدوا واحدا يوافق على البيعة لهم والقبول بعروضهم، حتى أن زعيمهم أبوبكر البغدادي عندما قدم إلى المدينة واستمع إلى تقارير مساعديه بهذا الصدد، تملكه الغضب وأمر باعتقال جميع الذين فوتحوا ورفضوا تسلم إدارة المحافظة والمسؤوليات العسكرية، وحمدا لله فإن أكثرهم تمكن من مغادرة الموصل وتوارى عن الأنظار، باستثناء العقيد الطيار السابق وليد سليم الذي احتجزه التنظيم مع نجله النقيب خالد لأكثر من عامين، وقد أعدمهما بطريقة بشعة في يوليو الماضي، رحمهما الله.
وليس صحيحا ما تناقلته أنباء وتقارير مصادرها وسائل إعلام ودوائر استخبارية ومراكز دراسات صهيونية وإيرانية وغربية، عن تعاون قيادات عسكرية وبعثية ودينية وعشائرية موصلية مع التنظيم، وقد ثبت أنها ذات دوافع مغرضة للإساءة إلى أهل الموصل والتشكيك في مواقفهم الوطنية والقومية واعتدالهم الديني، وهما عاملان فرضا على داعش، الاستعانة بكوادره الأجنبية لإدارة المدينة وقيادة قواته العسكرية.
وبالمناسبة أظهرت لقطات تلفزيونية عرضت قبل أيام، ضابطا موصليا من الجيش العراقي السابق، وقد هده التعب والقهر، وهو يهدي سيفا مذهبا حصل عليه قبل سنوات عند تخرجه من الكلية العسكرية بتفوق، إلى الفريق عبدالغني الأسدي قائد قوات مكافحة الإرهاب قائلا: احتفظت بهذا السيف أربعين سنة وأخفيته طوال فترة احتلال داعش، وحان الوقت الآن، لأقدمه هدية إلى قائد عسكري عراقي، تحية له وتقديرا لشجاعته.
إن داعش بعد أن لمس ميدانيا وشعبيا، عدم تعاطف البيئة السنية العربية مع سياساته وإجراءاته، وهو الذي كان يظن أنها ستكون حاضنة له، أقْدم على سلسلة من الجرائم والانتهاكات طالت نخبا ثقافية وأكاديمية واجتماعية وعسكرية لم تتسنَّ لها مغادرة المناطق والمحافظات التي احتلها التنظيم، وقبل أيام شاهدت ضابطا متقاعدا يبكي بحرقة لأن رفيق سلاح سابق له، لم يتمكن من الخروج من الموصل بسبب شيخوخته ومرضه، لا يجد دواء ولا طعاما له ولزوجته الطاعنة في السن، ويقضيان أياما وليالي وهما في حالة حرجة، بعد أن منع التنظيم وصول إعانات لهما من أقاربهما في إقليم كردستان والخارج.
إن الهزائم العسكرية الأخيرة التي لحقت بتنظيم داعش من قبل الجيش والقوات المشتركة خصوصا في الجانب الأيسر من الموصل، جاءت في جانب منها نتيجة نفور السكان المدنيين من تصرفات أعضائه وانتهاكات مقاتليه الذين عمدوا إلى وضع المدنيين في خطوط الصد كدروع بشرية انتقاما منهم، بعد أن لاحظ قادة التنظيم استبشار الأهالي بمقدم القوات العسكرية لتحرير أحيائهم، وقد لاحظ الجميع علامات الفرح على وجوه النازحين من المناطق المحررة رغم معاناتهم الشديدة وقلة الغذاء والدواء والخيام والأفرشة والوقود والمستلزمات الحياتية الأخرى، حتى أن الكثير من العوائل خاطرت بحياة أبنائها وتسللت إلى مواقع الجيش خلال اشتباكاته مع مسلحي التنظيم، دون أن تخشى الموت الذي يتهددها من كل صوب، فالمهم عندها الخلاص من جور داعش، تاركة بيوتها وممتلكاتها دون اكتراث بمصيرها.
لقد استمع القادة العسكريون في جبهة الموصل، من زملائهم السابقين والمتقاعدين، إلى قصص المقاومة التي شهدتها المدينة طيلة الشهور الثلاثين من احتلالها، والتضحيات التي بذلها أبناء الموصل وهم يتصدون لعناصره المدججين بأحدث الأسلحة ببنادق خفيفة ومسدسات بسيطة، ولو أُتيحَ لهم السلاح كما قال أحدهم، لقادوا مقاومة شعبية وعسكرية في المدينة، خصوصا وأن الموصل تزخر بقادة وضباط تشهد سجلاتهم بالكفاءة والمهنية، ودعوة إلى قيادة حرس نينوى بتوثيق هذه الوقائع خدمة للتاريخ.
إن البيئة في كل مكان عندما تلفظ تنظيما ولا تتعامل معه، فإن مصيره الخذلان والهزيمة، وهذا ما حصل، ويحصل، لتنظيم داعش في الموصل.