سرمد كوكب الجميل يكتب:حوار في ثقافة مدينة الموصل القديمة وفضاءاتها

قال أحد طلابي وهو يحاورني إنكم تفرضون علينا آرائكم وتكلفوننا وتعيبوننا بآرائنا وترفضون التحديث والتجديد وتنكرون زمننا وتلغون فجوة زمنية لقرن أو قرنين وتحسبون أننا نعيش زمنكم وتنكرون الزمن انكارا وتحسبون اننا نعيش ذلك الزمن، وتعلمون أن حياتنا غير حياتهم وأن سلوكنا غير سلوكهم وأن لا صلة بيننا وبينه، فنحن عصر التكنولوجيا والمعلوماتية والشبكات والتواصل فدعونا نعيش حياتنا ونفكر ونتواصل كما نشاء، ودعوتنا قائمة فلا الأزقة تنفع ولا القناطر تواصل ولا الخرائب حضارة، إنكم تضيّعون وقتنا وتكلفونا ضروبا فيما لا حياة فيه.

فقلت انتهيت؟ قال نعم؛ قلت الحمد لله هل لي أن أحاورك بحجج وبراهين؟ قال أجل؛ قلت لقد كثر من يحملون هذه الآراء والمفتونون بالتطوير والتواصل الاجتماعي والتكنولوجيا وغيرها من ضروب عالم اليوم، وهم متلهفون على السهل الجديد، ومنساقون على قول بلا فعل يذكر، فهلا صحبتني في حواري بين حنايا المدينة القديمة والخانات المتبقية والأزقة والقناطر ونتجول في تلك الخرائب ما استطعنا لأثبت لك بأن ما تقوله لا يقوم على روية وأناة فكل تحديث وتطوير لا بد أن ينطلق من أسسه الصحيحة ولا يتأتى من فراغ ثقافي.

لقد كان مجتمعا العمل ديدنهم فوصفهم الغرب بخلية نحل تصنع خلايا خماسية الشكل، ولهذا تميزت هذه المدينة عن غيرها من المدن في شكلها وتخطيطها وأسواقها وخاناتها وقيصرياتها، فهؤلاء الناس هم من أولئك الذين خلدوا ذكراهم في هذا التركيب المبدع، ولم يكن لديهم موارد كالتي لديكم اليوم إنما موردهم عملهم، فتمكنوا من عبور المصاعب التي واجهتهم من أوبئة وحروب ومجاعات وحصارات ورسموا أعظم الملاحم التي جهلتموها .

هنا عاش ابن جني والسري الرفاء وابن يونس ، أتعلم ماذا يقول ابن هشام عالم النحو يقول عندما كان يختلف الكوفيون والبصريون في مسألة نحوية عادوا لعرب أهل الموصل، وتعلم ماذا قال أبن خلدون: (…مازلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه ، إن ابن هشام على علم جم يشهد بعلو قدره في صناعة النحو، وكان ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل الذين اقتفوا أثر ابن جنى واتبعوا مصطلح تعليمه ) ، نعم مناهج موصلية في النحو والتاريخ والأدب ورواد الصناع والشعراء والعلماء وغيرهم عاشوا ضمن هذه الرقعة التي لا تزيد مساحتها عن اربعة كليومترات مربعة .

قل لي بربك ماذا خلدتم انتم يا شباب اليوم؟ تركضون وراء البطالة المقنعة كي لا تعملوا، تلحقون الشهادات للتزين بها، وتخطئون بظنكم أننا لم نفهم التحديث والتجديد ولكن شتان بين الاثنين وبين فهمنا له وفهمكم له، فدعوتنا ليست للتعصب للماضي والجمود في كنفه إنكم ترون الغثاة في اعيننا ولا ترون الجذع في اعينكم فكل حجر وكل بيت وكل زقاق له قصص وروايات كنت أتمنى من أحدكم أن استخدم خياله وكتب لنا قصة أو رواية أو قصيدة أو اخرج لنا فلما وثائقيا أو رسم لنا لوحة أو صور لنا تلك الكنوز الزاخرة ونشرها للعالم ومجتمعاته، فقد اكتظت ذاكرتي بالشخصيات والقصص والروايات والأحداث ومصدرها هذه المدينة القديمة بكل ما فيها او ما تسمونه خرائب! ، فمن يطلق الدعوات عليه ان يدخل في عقر هذه المدينة وبنيّة صادقة وهي كفيلة بأن ترفده ببحر من الكنوز الدفينة فتكون انطلاقته بأسس صلبة وأركان ثابتة .

أجدكم في حالة انقطاع عن مدينتنا المهملة ولكن نبضاتها حية وبعكسه فهو الجهل ولا أظنكم تتخذونه هدفا ووسيلة ! فقيمها باقية وأعرافها مستمرة وطقوسها مسطرة على الرغم مما حصل فيها وأعظمه تفجير منارتها الحدباء مما يثبت بأن المدينة لم تشهد هجمة كالتي حصلت منذ ألف سنة بدلالة حدبائها مما يدعوننا للتمسك بما بقي فهي منبع ثقافتنا ومنهجا لحوارنا فمن اكتسب ثقافة المدينة القديمة اتقن العمل واكتسب الحرفة وأبدع في فضاءات الثقافة الرحبة دعوتنا لإعادة تجديدها وتفعيل قواعدها وأنماطها وشكلها ووظيفتها لا تحديث شكلها فتتعطل وظيفتها .

فقال طالبي هون علي لأفهم التمييز بين التحديث وإعادة التجديد وأنت تدعو لإعادة التجديد لا الى التحديث ،وقلت أجل فهذا ما يلبي حاجاتنا ويعيد للمدينة وظيفتها فاستأذن وانصرف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *