متى يدرك العالم أن الفن لا يولد ولا يحيا إلا في فضاء تسامحي سعد القصاب
كأنّ الشاعر التركي ناظم حكمت (1902ـ 1963) يعني ما سيدور ويختلج في ذهن المعمارية العراقية زها حديد، حين كتب من سجنه في رسالة إلى زوجته “يريد ولدنا أن يصبح مهندسا معماريا، لكنه لم يحزم أمره بعد، سأكون مسرورا جدا إذا أصبح كذلك، لأنها إحدى المهن التي أحترمها أكثر ما يكون في العالم، إنني أعتبر الهندسة المعمارية أحد الفروع الأكثر أهمية في الفنون الجميلة. فليس هناك من أمر أكثر فائدة للإنسان، وأكثر استحقاقا لاسم ‘الفن الجميل’ من الهندسة المعمارية. ثم إن مبدأها يشكل أساس الفنون الجميلة الأخرى كافة، فالموسيقى والرسم والأدب دون هندسة معمارية هي جسم دون هيكل، كتلة هلامية، فوضى حمقاء، لكن افهميني جيدا، أنا لا أتكلم عن الإطارات الجامدة، بالعكس، إني أعني هنا هندسة المادة في حركتها اللانهائية”.
رحلت زها حديد وظل إبداعها خالدا
معماريون كثيرون ترفض مشاريعهم ظلما، وتغيب تصاميمهم حتى وإن كانوا يحظون بسمعة عالمية، فالأمر غالبا ما يتعلق بقرارات الجهة المستفيدة التي تعلل رفضها بأسباب عدة؛ منها أن يكون التصميم -في نظرها- يفتقد لتلك العلاقة البصرية أو الجمالية أو حتى التاريخية للمدينة المزمع ألإنجاز فيها، أو كونه طموحا إلى درجة تتجاوز وقت إنشائه أو الميزانية المحددة، وأخرى تتعلّق بـ“عدم مناسبته للسياق العمراني للمكان المقترح فيه التنفيذ”، كما يزعمون.
تعرضت المعمارية والمصممة العراقية الراحلة زها حديد (1950 ـ 2016) إلى جميع تلك الأسباب، بل وأكثر منها، والمتعلقة بقرارات لا تخفي دوافع غير مهنية، أو حتى الجهل في تقدير وتقويم منجزها، وغالبا بذريعة الخشية وغياب إمكانية التنفيذ لكون المشروع التصميمي المقترح شديد الطموح ومستقبلي النزعة، يتطلب تشييده تقنيات ومواد بناء متقدمة. لذا تم حجب مشاريع معمارية عديدة لها بعد موافقات رسميّة عليها، وذلك ما أثار الجدل بكونها امرأة عراقية عربية ومسلمة.
وفي حوار لها مع صحيفة “الغارديان” البريطانية، قالت زها حديد “في اللحظة التي تم قبول كوني امرأة، وكوني عربيّة أصبح إشكاليّة”، إجابة تختزل ذلك التحدي الذي لاقته كونها امرأة تحولت إلى أن تكون الأولى عالميا في مجال شديد الخصوصية والتخصص، كان إلى حين ظهورها في تسعينات القرن الماضي حكرا على الرجال، والغربيون منهم تحديدا.
بداية تلك المواجهات كانت في العام 1994 مع فوزها بتصميم أوبرا كارديف في ويلز، حيث رفضوا إنجاز المشروع، وقاموا بإلغائه، كان الأمر مصحوبا بحملة اتخذت طابعا عنصريا، لكونها عراقية وفدت لهم من لندن. أحزنها ذلك كثيرا، وكان بمثابة فأل سيء لمكتبها، خسرت بعدها العديد من المسابقات لمدة قاربت العقد. بعد تلك السنوات سيعتذر الكثير من أهالي ويلز لها، عملها ذاك رائع وفني بامتياز، لكن بقيت حديد من دون مشاريع كبيرة لها في بريطانيا، حتى هجرتها إلى أميركا، بينما كان مكتبها في لندن.
وفي إسطنبول، فازت حديد في العام 2007، بتصميم مشروع تطويري، لكن على الرغم من فوزها لم يتم تنفيذه، وأعيق إنجازه من قبل غرفة المهندسين المعماريين، وأعضاء حزب الشعب الجمهوري العاملين في مجلس بلدية كارتال. بل وأصدرت المحكمة في غضون ست سنوات خمسةَ قرارات لإيقاف العمل عليه. وأثناء هذه المدة تم التعديل والتلاعب بتصميمات المشروع وتغيير المخطّطات إلى أن تم قبولها العام الماضي على أن يتم التنفيذ لاحقا.
يابانيون اعتبروا قبول تصميم مهندسة عراقية في بلادهم، إهانة للهندسة اليابانية واستخفاف بالإنجاز التقني الياباني
صممت حديد، كذلك، مشروع الملعب الأولمبي في طوكيو لاستضافة الألعاب الأولمبية في 2020، الذي لاقى استنكارا ورفضا غير مسبوقين من قبل عدد من المهندسين اليابانيين، ووصف بأنه دميم ونافر ويفتقد للإبداع، وتشييده خطأ جسيم، ووصف المهندس الياباني آراتا إيسوزاكي، التصميم بكونه “عارا على أجيال المستقبل”، وأضاف أن المبنى برمته “يبدو أشبه بسلحفاة تنتظر أن تغرق اليابان في المحيط حتى تتمكن من العوم”. جاءت تلك التعليقات الجارحة بذريعة عدم تناسبه مع البيئة المحيطة بالملعب.
كما شبّه التصميم بقبعة راكبي الدراجات الهوائية. وعلى الرغم من حصول الموافقة عليه من قبل المسؤولين في مدينة طوكيو والتفاوض على تنفيذ مراحل الإنجاز، إلا أن حزمة الانتقادات الحادة من النقد من قبل نقاد ومهندسين يابانيين، والتي لم تخل دوافعها من عنصرية بينتها حالة الاستنكار على قبول تصميم مهندسة عراقية وعدّها بمثابة إهانة للهندسة اليابانية واستخفاف بالإنجاز التقني الياباني، دفعت الجهات المسؤولة إلى استبداله، واقتراح تصميمين بديلين عن تصميمها لمعماريين يابانيين، فيما ردّت حديد على منتقديها بأنهم لا يريدون لأجنبية أن تصمم مبنى في العاصمة اليابانية، وأضافت “إنه أمر محرج حقا، خاصة وأن معظم من ينتقدون تصميمي هم أصدقاء لي وسبق أن عملت معهم من قبل”.
كما تجلت مثل هذه المواجهة التي افتعلها الآخرون ضدها، عبر تعليقات ذات طابع سياسي، ففي العام 2014، هاجم الناقد المعماري مارتن فيلر في صحيفة “نيويورك ترفيو” المعمارية زها حديد متهما إياها بعدم الاكتراث إلى أوضاع العمالة الأجنبية في مشاريع العمارة في قطر، وزعم أن ألف عامل توقفوا خلال العمل على بنائهم لملعب من تصميمها.
كان ذلك الموضوع أثير بدافع الصراع البريطاني القطري على استضافة مونديال كرة القدم في دورة 2024، وفوزها بتصميم ملعب” الوكرة” في الدوحة. اضطرت حديد لرفع دعوى قضائية ضد فيلر ذكرت فيها أن المقالة التي نشرت تسيء إلى سمعتها وتلمح كذبا إلى عدم اكتراثها بظروف العمل الصعبة للعمالة الأجنبية في مشروعات معمارية ضخمة.
وكانت تعليقات قد شبهت ملعب الوكرة بعضو تناسلي أنثوي، وردت على هذه المزاعم بأنها “محرجة وجوفاء”، وذكرت في تصريح حصري لمجلة “تايم” الأميركية، أن تصميم سقف الملعب والانحناءات التي عليه تشبه أشرعة مراكب الصيد التقليدية المستخدمة في قطر، لكنها أضافت متسائلة “بصراحة… لو أن رجلا عمل على تصميم الملعب لما خرج النقاد بمثل هذه المقارنة الوقحة”. وأضافت، كذلك، أن وقتها ضيق جدا لمتابعة مثل هذه المقارنات البذيئة.
وأنجزت زهاء عمارة ليس بالإمكان تصنيفها، كما يقول أحد المتخصصين في الهندسة المعمارية، وكانت عمارة تشبه خيالها الثوري، عمارة “زهائية” بامتياز، حتى وإن تمت مقاربتها أحيانا بتوصيفات التفكيكية أو ما بعد الحداثية. لقد استطاعت وبجدارة غير مسبوقة، أن تعمل على توسيع الفضاء المتاح للعمارة في العالم، ورفده بتنويع جمالي استثنائي وفريد، بل أضحت عمارتها دالة على المكان ومعرّفة به.
خيال جعل من كتلة الشاخص المعماري قابلة للتحليق لفرط هشاشتها وخفتها الخلاّقة. كان كل إنجاز لها حدثا تصميميا خلاقا في تاريخ العمارة، من وجهة نظر الخبراء والمتخصصين. كانت أمنيتها الوحيدة والتي لم تتحقق، هي أن يرى والدها النجاح الذي أحرزته.