نهاية البراغماتية الكردية.. تعطيل الاستقلال العربي الجديد: حيدر سعيد رصد عراقيون

ما فتئ الساسة الكرد العراقيون يذكّرون بأنهم اختاروا، غداة إسقاط نظام صدام حسين، الاتحادَ الفيدرالي شكلا للعلاقة التي تربط كردستان بالحكومة المركزية في بغداد، وأنهم عملوا على تثبيت هذا في الدستور العراقي الدائم لسنة 2005، الذي كانوا طرفا رئيسا في صناعته، وأنهم (يقولون) لم يلجأوا إلى الأسلوب الذي لجأ إليه زعماءُ جنوب السودان، حين وضعوا، في اتفاقية نيفاشا سنة 2005 التي أنهت الحرب الأهلية في السودان، مدة زمنية تجريبية (ست سنوات)، يقرّر بعدها أبناءُ جنوب السودان مصيرَهم ومصير إقليمهم، فيما إذا كانوا سيبقون وسيبقى جزءًا من السودان الموحّد أم لا. وبالفعل، انفصل جنوب السودان سنة 2011، بعد السنوات الست التي نصّت عليها الاتفاقية، لتنشأ جمهوريةُ جنوب السودان، في عمليةٍ سلسة، احترمتها الأطراف جميعا.
اتفاقية نيفاشا للسلام الدائم والدستور العراقي الدائم وُضعا في الوقت نفسه تقريبا. ولذلك، كان الساسةُ الكرد العراقيون يشيرون إليها لإيضاح الأسلوب المختلف الذي اعتمدوه، فهم لم يعمدوا إلى وضع مدة تجريبية، ولم يقترحوها، كما السودان. اختار الساسةُ الكرد الاتحادَ الفيدرالي اختيارا دائما، هذا مع أن الاستقلال حلم للكرد جميعا، يمتزج بتفاصيل حياتهم، وتكاد تجده في ثقافتهم وأغانيهم، في رقصاتهم وملبسهم. كلُّ ما على أرض كردستان يحلم بالاستقلال. وهو فكرة راسخة وعريقة، تبدأ حتى قبل أن يكون ثمة كيان سياسي اسمه “العراق”، فحركةُ الشيخ محمود الحفيد، الذي قد يكون الأبَ الفعلي لفكرة “الاستقلال” في التراث السياسي الكردي، انطلقت سنة 1919، قبل قيام المملكة العراقية بسنتين. وهذا التحديدُ يعني أمرًا شديد الأهمية، هو أن استقلال كردستان لم يكن تمرّدا على العراق، أو مطلبا حرّكه الظلمُ والاضطهاد وعسف الدولة في إدارة ما ستعرف منذ تلك اللحظة بـ “المسألة الكردية”، وإن كان هذا كله صحيحا وحقيقيا، فإن ما حرّك فكرةَ استقلال كردستان هو رغبة هذه القومية الصاعدة في أن تكتسب إطارَها السياسي الخاص. وقد أنتجت حركةُ الكرد لاكتساب هذا الإطار الخاص وتحقيقه، ما بعد رسم الخريطة السياسية الحديثة للمنطقة في الربع الأول من القرن العشرين، تصدعاتٍ دامية، في كل البلدان التي يتوزع عليها الكرد.
كانت مسيرةُ الكرد دامية ومؤلمة، بكل تأكيد، لا تقف عند محمود الحفيد فقط، بل تمر بالشيخ سعيد بيران، وجمهورية مهاباد والملا مصطفى البرزاني، وثورة سبتمبر/ أيلول 1961، وَعَبد الرحمن قاسملو وَعَبد الله أوجلان، والأنفال وحلبچة، إلى آخر سجل العذاب الكردي الذي تورطت سائرُ دول المنطقة فيه. وأصبحت فكرة استقلال كردستان كالأفكار المقدسة لدى معتنقيها، ذلك أنها غُمّست بالدماء.

استكمال مقومات الدولة

مع ذلك، ومع أن الكرد عاشوا وضعاً خاصاً في العراق منذ 1991، إثر انسحاب السلطة المركزية في بغداد، والحماية التي وفّرها التحالفُ العسكري الغربي للمناطق الكردية، لم يختاروا أن يطوّروا هذا الوضعَ الخاص إلى دولة مستقلة، أو في الأقل، وضع برنامج زمني يفضي إلى الاستقلال، واختاروا، في دستور 2005، الاتحاد الفيدرالي الدائم.
هل تنكر الساسةُ الكرد لفكرة الاستقلال، آنئذ؟ يسيطر شعور عام على عرب العراق (وسواهم بكل تأكيد) بأن بقاء الكرد في العراق مؤقت، وأنهم سيختارون الاستقلال متى أتت اللحظةُ المناسبة. و”اللحظة المناسبة”، هنا، تعبير مكثفٌ عن تقاطع حزمة عوامل، كردية، وداخلية (في العلاقة مع الحكومة المركزية في بغداد)، وإقليمية، ودولية.
ومع ذلك، باشر الساسةُ العرب العراقيون بتصميم نظام “تقاسم السلطة”، مع الكرد، في إطار ما تعرَف بـ “الديمقراطية التوافقية”، بغض النظر عن تقييمنا هذا النظام وكفاءته ومدى نجاحه ومدى إيمان الساسة العرب العراقيين بأن “يتقاسموا السلطة”، في ظل ثقافة ومشاعر وتاريخ (وأحيانا إيديولوجيا) بأن هذا البلد عربي، هوية، وسياسة، وروحا، وتوجها، ورموزا، وذاكرة.
ومن ثم، كان الساسةُ العرب العراقيون يمارسون شيئا من الازدواجية: إحساسهم بأن بقاء الكرد مؤقت، وأن استقلال كردستان قادم لا محالة، والعمل على نظام دائم لتقاسم السلطة.
بالنسبة لي، بوصفي مثقفا عربيا، تحمل هذه الازدواجيةُ (فضلا عن الوعي بها) نزعةً عدمية، لا يمكن العمل بها ومعها، فكيف يمكن أن نعكف على تصميم نظام سياسي مستقر، أيّا كان شكله، ونحن نوقن أن حدود البلاد لن تبقى كما هي؟ كيف نصمّم تقاسمَ السلطة مع مجموعة إثنية، ونحن نؤمن بأنها ستنفصل قريبا؟
وبالنسبة لي أيضا، كان التجريبُ (على الطريقة السودانية) أمرًا شديد الأهمية. ولكن، لا أن يجرّب الكردُ مدى تكيفهم في اتحاد فيدرالي، بل أن يجرِّب العربُ إمكانيةَ أن يُنشئوا (أو يسهموا في إنشاء) دولة متعدّدة الهويات والإثنيات، لا أن تطبع هويتُهم روحَ الدولة وذاكرتها، وتعرّف “الآخرين” بوصفهم “أقلياتٍ”، ملحقة وثانوية، بل أن تكون جزءا، فاعلا، من نسيج هويات مركّب، تحكمه المواطنة المتكافئة.
هذا التجريب وحده الذي كان يمكن أن يستدرك على الإشكالية المؤسِّسة للدولة العراقية الحديثة، وهي أنها دولة متعدّدة الهويات، وبهوية غالبة متفوقة في الوقت نفسه، وما قاد إليه هذا من معالجاتٍ قسرية، ولا سيما فيما يخص المسألة الكردية، وصلت إلى حد الإبادة الجماعية. هذا هو الرهان الذي كان علينا أن نخوضه. ولا يبدو أننا خضناه، بل أعدنا إنتاج نمط الدولة الأمة نفسه، بتراتبياته وتوازنات قواه المعتادة، وكأن الأزمة ليست في النظام، بل في أشخاص وسياسات خاطئة، وكأننا لم نتعلم من تأريخنا الثر بأخطائه.

وفي كل الأحوال، لم يكن ثمّة “طريق ثالث” في هذه الازدواجية العدمية التي حكمت تفكير الساسة العرب. وتحديدا، كان يمكن أن يكون ثمّة طريق ثالث، يتمثل بالتخطيط لمرحلة انتقالية، بما تتضمن من ترتيباتٍ وإجراءاتٍ تفضي إلى استقلال كردستان.
أما الكرد فلم يكونوا خارجَ هذه الازدواجية، إلا أن “الطريق الثالث”، في الرؤية الكردية، ليس برنامجًا زمنيًا بتوقيتاتٍ محددة، تنتهي إلى الاستقلال، بل هو “استكمال مقومات الدولة”، الذي قد لا يتحقق في مدة زمنية قصيرة، ولا يمكن ضبطه بتاريخ محدّد، فـ “اللحظة المناسبة” للاستقلال لا تتوقف على الكرد، بل على الخارج وتعقيداته كذلك.
من هنا، لم تكن هذه الازدواجيةُ ذاتَ طبيعة عدمية لدى الكرد، ذلك أنها مرحلة انتقالية، ستعبر بهم إلى الدولة المستقلة، وإن كانت هذه المرحلة الزمنية من دون حدود.
ومن هنا، أيضا، لم يتنكّر الكرد لمبدأ الاستقلال، بل إنهم (من أجله) غضُّوا النظرَ عنه قليلا، ووضعوه جانبا لصالح الاتحاد الفيدرالي في إطار العراق الواحد. وهذا هو الجانب الأكثر قوة في السياسة البراغماتية التي مارسها الكرد.
النزعة البراغماتية للسياسة الكردية

وفي الحقيقة، لا يمكن فهم تعطيل مبدأ الاستقلال (وإن كان تعطيلا مؤقتا)، لصالح الاتحاد الفيدرالي الدائم، إلا بأنه جزء من النزعة البراغماتية التي طبعت السياسة الكردية ما بعد 2003.
وكانت هذه البراغماتية تتجلى بأكثر من مظهر، منها (وأهمها ربما) أن الكرد جعلوا (أو قبلوا بأن يكون) حسم مسألة “المناطق المتنازع عليها” سائبا، على المستوى الزمني، أي من دون حدود زمنية، عمليا. ومع أن الخطاب الكردي الداعي للاستفتاء الآن يستعمل حجةَ عدم تنفيذ الإجراءات والخطوات التي نص عليها دستور 2005 لحسم وضعية “المناطق المتنازع عليها” مبرّرًا لشمول هذه المناطق بالاستفتاء وإجرائه فيها، لم يعمل الساسةُ الكرد ولم يضغطوا ـ في الحقيقة ـ لوضع برنامج زمني واقعي للانتهاء من هذه المسألة. وبالنسبة لهم، كان الانهماك بالترتيبات الداخلية لكردستان أوْلى من حسم وضعية هذه المناطق، هذا فضلا عن أن الحدود الزمنية المفتوحة لهذا الحسم تحيّد (أو تؤجل) الصراعات التي يمكن أن تنشأ على هذه المناطق وتربك البناءَ الكردي الداخلي.
وبموازاة هذا، كانت هناك سياسة “قوة ناعمة” كردية بطيئة وطويلة النفس، عملت على هذه المناطق، لإقناع أهلها بالنموذج الكردي مقارنة بنموذج بغداد: إدارة كفوءة في كردستان، ودولة فاشلة في بغداد، دولة تحمي الحريات الشخصية والأقليات الدينية في كردستان، ودولة عاجزة عن فعل ذلك في بغداد. ومع أن النموذج الذي تقتبسه كردستان هذا لا يعير اهتماما بالحريات المدنية والسياسية، وقد تكون بغداد أكثرَ تقدّما في هذا المجال، إلا أن هذا النموذج بات رائجا في المشرق، ومغريا للأقليات الدينية والإثنية، حيث تستبدل الدولةُ بالحريات المدنية والسياسية الحرياتِ الشخصية (وكذلك الدينية والثقافية)، وتتعهد بحمايتها. هذا النموذج الذي يُسوَّق بديلًا لفشل الانتقال الديمقراطي الذي فرّط بالدولة، ولم يُنجز الديمقراطية، تقتبسه كردستان ليكون أحدَ مصادر قوتها الناعمة، على المكونات الدينية والإثنية المنتشرة في المناطق المتنازع عليها.
ومن مظاهر البراغماتية الكردية، كذلك، تحالف الساسة الكرد مع الإسلام السياسي الشيعي، الذي تصدّر حكم العراق ما بعد 2003. ومع أن إحدى الحجج التي تُستعمل كرديًا، الآن، لتبرير الاستفتاء أن العراق، من حيث هو مشروع دولة ديمقراطية أُطلق في حقبة ما بعد الاستبداد، فشل ولم يتحقق، وتحول، على النقيض من ذلك، إلى دولة طائفية، فإن قراءة مسار التطورات منذ أبريل/ نيسان 2003 تكشف أن المفاصل الأساسية في هذا المسار صنعها تحالفُ أحزاب الإسلام السياسي الشيعي والحزبين الكرديين الرئيسين، وأن الكرد لم يقفوا لردع النزعة التسلطية النامية، التي تبلورت خلال حقبة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، في حين وقفت أطراف شيعية، ومن داخل الإسلام السياسي الشيعي (مقتدى الصدر مثلا)، في مواجهة هذه التسلطية، منادِيةً بإطلاق مشروع إصلاحي جذري لمسار الدولة العراقية المتعثر. وحتى خلاف الكرد (رئاسة الإقليم والحزب الديمقراطي الكردستاني تحديدا) مع المالكي في سنوات حكمه الأخيرة، لم يكن بسبب الموقف من الديمقراطية، أو علمانية الدولة، أو الحكم الرشيد، أو حال الحريات المدنية، بل بسبب قواعد توزيع الثروة في عراق ما بعد 2003، ومنها قانون النفط والغاز، وقيام إقليم كردستان بالاستثمار في القطاع النفطي وإنتاج النفط وتصديره، وحصة الإقليم من الموازنة العامة، وما إلى ذلك مما يدور في هذه الدائرة.

كانت القوى العلمانية الديمقراطية في العراق تأمل أن تكون الأحزابُ الكردية حليفًا لها، إلا أنها أيقنت أن هذه الأحزاب تركّز على امتيازات الإقليم وحقوقه أكثر مما تركز على المفاصل الديمقراطية للنظام. طبعا، ينبغي التأكيد، هنا، على أن النظام السياسي لكردستان لا يمكن وصفه، بأي حال، بأنه ديمقراطي، فهو يعاني من سائر أمراض الأنظمة السياسية في المشرق: القرابية، تغوّل السلطة التنفيذية، الريعية، عدم احترام الفصل بين السلطات، النزعة التسلطية، الفساد. .. كان أملُ الأحزاب العلمانية الديمقراطية هذا ينطلق من أن الأحزاب الكردية علمانية (بما أنها أحزاب قومية، وكسائر الأحزاب القومية في العالم)، يمكن أن تواجه الأحزابَ الدينية الصاعدة في بغداد، ولم يتنبه الأملُ العلماني الديمقراطي إلى أن الأحزاب الكردية ليست ديمقراطية، وإن رفعت شعارَ واسمَ الديمقراطية (كان شعار “الديمقراطية للعراق” من الشعارات الأساسية التي رفعتها حركة التحرير الكردية منذ ثورة سبتمبر/ أيلول 1961)، ومن ثم، فإن “فاقد الشيء لا يعطيه”، على نحو ما يرد في القول المأثور.
يمكن إيراد أمثلة كثيرة على فاعلية البراغماتية الكردية وحيويتها ما قبل قرار الاستفتاء. أقول: ما قبل قرار الاستفتاء، لأنني أتصور أن القرار بالمضي في الاستفتاء لم يُنهِ فقط تعطيلَ مبدأ الاستقلال، بل أعاد السياسةَ الكردية إلى المبادئ، لا المصالح والممكنات، بغض النظر عن الاعتبارات السياسية المحيطة ومدى إمكانية تحقق هذه المبادئ.
وبكلمة: يضع الساسة الكرد، مع قرارهم المضيَّ بالاستفتاء على استقلال كردستان الآن، حدًّا لنزوعهم وسياستهم البراغماتية.
#وكالة_انباء_عراقيون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *