مسيحي يرمم منارة أقدم جوامع الموصل / نوزت شمدين

 

نقاش- 1/5/2014

متابعة /عراقيون

أفلت جرجيس بجسده البرميلي من قبضة مدير مكتب المحافظ، وثلاثة من أفراد الحماية حاولوا تقييده بأنطقتهم العسكرية، فارتفع صوت جرجيس وهو يراوغ الأيدي والأرجل التي تلاحقه في ممر الطابق الأول ويصرخ “وا أثيلاه …… وا أثيلاه “.

شاع في المبنى إن انتحارياً بحزام ناسف يحاول إنهاء الولاية الثانية للمحافظ، واستعدت قوات مكافحة الشغب لاقتحام المكان، بعدما منعت الشرطة المحلية المشاة من السير في شوارع الدواسة والجمهورية وباب الطوب المحيطة بالمبنى، إلا إن النجيفي أنهى بخروجه من مكتبه حالة الطواريء، وشاهده نحو ثلاثون شرطياً وعسكريا امتلأ بهم الممر، وهو ينخفض نحو نصف متر للوصول إلى أعلى نقطة في جرجيس طابعاً قبلة على جبينه، فاستسلم الأخير وراح يمشي مثل بالون عيد مرافقاً المحافظ، ومفتخراً بنجاح خبصته.

اضطر المحافظ في ذلك اليوم إلى إلغاء مواعيد حضوره ندوةً عن حصاد المياه، واستقبال وفد من اتحاد الصناعات وزيارة مفاجئة لبلدية الموصل واستمع لنحو أربع ساعات إلى صوت جرجيس الببغاوي وهو يسرد القصة الكاملة لبناء منارة الجامع النوري، رافضاً تسميتها بالحدباء، لأن ذلك يمس كرامة جده عبود الطنبورجي المسيحي الذي رمم المنارة في ثلاثينيات القرن المنصرم.

كان جرجيس الذي لا يزيد طوله عن مقبض الباب ضائعاً رغم سمنته في ثياب فلكلورية شملت زبوناً وفوقه الدمير ورأسه المربع مغطى بكوفيه وعقال وينتعل حذاءاً جلدياً أحمر اللون، وكان اثيل المنبهر بالزي يراقب باهتمام بالغ جرجيس وهو يدور مثل مزراع في أنحاء الغرفة، متحدثاً باللهجة المصلاوية بلا توقف.

“جنابك تعرف بأن الجامع الكبيغ أو النوري بناه المرحوم السلطان نور الدين محمود عماد الدين زنكي القائد الاسلامي المعروف في عام 1227 ميلادية، وبتكلفة بلغت ستين ألف دينار من الذهب، وقد بني بأعمدة رخامية منقوشة بالزخارف، انقسم الجامع على اثرها الى مربعات حملت احداها قبة الجامع” قال جرجيس.

ثم تابع وهو يخرج يده من نافذة الغرفة موجهاً سبابته التي تشبه نهاية قلم رصاص صوب الغرب “هنالك أُنشات المئذنة في الجزء الشمالي الغربي من الجامع بارتفاع شاهق يبلغ (45،49 متراً) مع قاعدتها المكعبة تغطيها زخارف هندسية إسلامية، ويسندها من الداخل سُلّمان كعمودين فقريين يلتقيان في الأعلى للمحافظة على تماسكها، وتيبس الجص والرياح الغربية التي تهب على الموصل هي التي جعلت المنارة تميل صوب الشرق وليس جدي عبود”.

ثم قال وهو يغالب ضحكة فخرج صوته بما يشبه زقزقة العصافير ” المسلمين يقولون المنارة انحنت لــ محمد، والنصارى قالوا انحنت لمريم وكلهم لا يعرفون بأنها بُنيّت بعد وفاة الأثنين بمئآت السنين”.

بعدها اقترب جرجيس من مقعد المحافظ، أرخى زبونه قليلاً، وأخرج صورة قديمة بالأسود والأبيض، لشخص في عقده الثالث أقرب ما يكون إلى هيكل عظمي معلّق وسط سُلَّم مسنود إلى جدار، فرفع النجيفي حاجبيه في إشارة الى عدم معرفته بالشخص، فابتسم جرجيس ربع ابتسامة وقال “هذا جدي رقدت روحه الطاهرة بسلام ، عبود الطمبورجي الذي رممّ منارة الحدباء سنة 1939”.

بعدها قال محاولاً تغليظ صوته”الموصل سميت حدباء ليس نسبة إلى المنارة كما هو الخطأ الشائع، بل لأن نهر دجلة يحتدب لدى دخوله المدينة من الشمال “.

في هذه الأثناء همس المحافظ في هاتفه الآي فون طالباً من مدير مكتبه استدعاء مؤرخي مدينة الموصل، لنجدته من الورطة التي هو فيها، بينما بدأ جرجيس يغرد ثانيةً ” كان جدي عبود واحداً من بين أهم البنائين في المنطقة الشمالية إلى جانب كل مننوري غزالة وفتوحي قاقو وخضر ويوسف العبيدي وعبّو السمعان ونعوم حنا الأسود ويوسف فندقلي واسطيفان عيسى وبهنام جردق، ووقع عليه الاختيار لترميم فجوة في جدار المئذنة، كانت تهدد بانهيارها”.

ثم عاد جرجيس ليرخي زبونه، واخرج من جهته اليسرى أوراقاً قديمة قال بأنها مذكرات جده عبود، وكانت ملفوفة على شكل اسطوانة، فتحها مثل ماكان يفعل رسل الازمنة السحيقة وراح يقرأ ” طلب مني متصرف الموصل ترميم المنارة وأول شيئ قمت به هو زيارة مكان العمل من داخل المنارة، فوجدت أن التصليح يجب أن يتم من الخارج وليس من الداخل، ونظر إلى المنارة من الخارج،وارتقيت أسطح عدد من البيوت المجاورة لها عدة مرّات، ومن أعلى المنارة درست حالة الرياح واتجاه الشمس والحالة الجوية، وذرعت المسافة بين حوض المنارة والفجوة فوجدها حوالي عشرين ذراعاً”.

كان جرجيس مشغولاً بقراءة المذكرات بشان مشكلة المنارة حينما وصل المؤرخان د. أحمد قاسم جمعة، وبسام الجلبي، وكانا يراقبان بدهشة كبيرة المشهد التراثي في غرفة المحافظ.

حيث تابع بعد دخولهما “ذهبت إلى ميزان كبير في علوة الميدان ووزنت نفسي،ووضعت حجر صمّان بنفس وزني في الصندوق الخشبي،ثم صعدت إلى حوض المنارة مع هذه المستلزمات وصفائح ملساء،وضعتها على حوض المنارة ليسهل انزلاق الحبال عليها دون أن تتخدّش أو تتآكل،وساعدني أربعة بنائين آخرين في الإمساك بحبلين مشدودين الى زاويتين في الصندوق، وأنزلوه ببطء إلى وسط المنارة، حتى وصلت الفجوة وقمت بتنظيفها بالمذراة من أعشاش الطيور والحجارة ورشّشتها بالماء من الجرار، ثم بدأت البناء بمزج الجص بالماء، واستعملت الحجارة التي كانت معي في الصندوق”.

انضم المؤرخان إلى زميليهما اللذّين كانا لا يزالان واقفين، وجرجيس يكمل: “بينما كنت أعمل، كان المتصرف قد حضر إلى المكان يرافقه موظفون قدموا من دائرتي الآثار والأوقاف من بغداد، وصعد الناس إلى أسطح المنازل المجاورة، نساء وأطفال وشيوخ وشباب” .

اعاد جرجيس لف الأوراق باعتناء، ثم قال وهو يشير بانحناءة صغيرة من رأسه للمحافظ: “المتصرف الذي هو مثل جنابك، أراد أن يكرم جدي بمبلغ من المال فرفض الأمر وقال بانه سيستلم إجوره من صاحب المنزل، ويقصد إن الجامع بيت الله، وأنه يريد أجره من الله “.

ورفع جرجيس يده باتجاه السقف ثم قال”كانوا من اهل الله، مسيحيين ومسلمين إخوة لا فرق بينهم “.

المؤرخون المجتمعون أقروا للمحافظ بصحة الرواية، وإن عبود الطمبورجي البناء المسيحي، هو الذي رمم وبلا مقابل مئذنة أقدم جامع مشيد في الموصل، لكنهم اعتذروا عن تأكيد علاقة القربى التي تجمع جرجيس بعبود الطمبورجي، وقدموا توصية بضرورة عرضه على صحة نينوى لإخضاعه لفحص (DNA).

تعامل جرجيس مع التوصية بطيبة أهل قره قوش وعبر عن استعداده للخضوع لأي فحص مطلوب حتى وإن كان لكشف الكذب، مقابل قيام المحافظ بإعادة ملكيته لبيت قديم في منطقة الساعة قام أحد المزورين بالتلاعب بصورة القيد الخاصة به، وباع البيت بالاستناد إلى دعوى تمليك غيابية مستغلاً تواجده لاجئاً في الولايات المتحدة الامريكية، وقال بأن هذا حدث لأملاك الكثير من المسيحيين في السنوات العشر الأخيرة.

دون اثيل النجيفي الملاحظات في دفتر صغير، واكد لجرجيس ان المحافظة ستساعده وتقف الى جانه وفقاً للقانون، وإن عليه تحريك دعوى قضائية بالسرعة الممكنة، وتعبيراً عن امتنانه قرر جرجيس التبرع بثيابه، ولفافة اوراقه المذكراتية لفريق المؤرخين، لأنها ملك لمدينة الموصل ومتاحفها.

ثم قال وهو يدور حول علم العراق المربوط إلى سارية صغيرة في نهاية الغرفة “أنا لا أتحدث عن سيرة جدي، لأقايض بها منزلي، فقد قرات تقارير مخيفة في الصحافة الأميركية كتبها جنود كانوا مع جيش الاحتلال في الموصل، عن إمكانية انهيار المنارة في أي وقت ان لم تتدخل جهة دولية خبيرة في الآثار لإنقاذها.

المحافظ هز رأسه موافقاً وقال وهو يودع جرجيس والمؤرخين عند الباب “وقعت عقداً مع اليونسكو وهم يدرسون الأمر وسيقومون بالترميمات اللازمة ” وبعد خطوتين خارج عتبة الغرفة قال جرجيس وكانه تذكر شيئا لتوه” بمناسبة وجودي هنا هل يمكن أن تدلوني على عضو مجلس المحافظة الذي حرَّم قيام اليونسكو بترميم الحدباء، كنت سأخبره إن جدي المسيحي قام بذلك فعلاً ولم يعترض أحد على ذلك قبل 75 عاماً “.

——

ملاحظة: كما جرت عليه العادة في معظم اشتغالي الأدبي، النصف الأول المتعلق بالحفيد ومحافظة نينوى كله خيال، والباقي الخاص بمنارة الحدباء وما فعله الطمبورجي واقع وموثق تاريخيا.

ملاحظة اخرى: جرجيس يقول ” المسلمين يقولون”، أوردتها هكذا وليس( المسلمون) لأن مسيحيو نينوى يلفظون الأسم هكذا( مسلمين) واللام ساكنة وليست منصوبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *