وآن الأوان كي يبدأ معركته الأخيرة / حميد الكفائي
لا أشكِّك قيد أنملة بنيات رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، وصدقيته عندما قال في معهد السلام الأميركي أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن، إن الحكومة العراقية لا تتدخل في عقائد الناس وإن واجبها خدمة المواطنين من كل الأديان والعقائد والتوجهات السياسية. لكن واقع الحال مختلف تماماً، فالحكومة تتدخل عملياً في حياة الناس وخصوصياتهم وعقائدهم وقناعاتهم، وأحسب أن العبادي يعرف ذلك تماماً، وإن كان حقاً يعني ما يقول، فإن عليه أن يبدأ العمل الآن على تطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة.
كثير من المشكلات التي يعاني منها العراق اليوم ناتج عن تسييس الدين والطائفة والمذهب وإقحامها في كل صغيرة وكبيرة، والتمييز ضد من يختلف سياسياً ودينياً ومذهبياً وطائفياً عن الأحزاب الحاكمة (علماً أن هناك مذاهب شتى داخل الطائفة الواحدة عند الشيعة تحديداً). فمن يحمل الأفكار والعقائد «المناسبة»، وإن لم يكن مخلصاً، يُكافأ بالمنصب والجاه ويُفضَّل على الآخرين، أما المخالف فإنه يُعاقَب ويُهمَّش ويُحرَم من حقوقه بل ويُتهم بالعمل ضد العراق!
مسؤولون كثيرون يتجاهلون الأديان والمذاهب والطوائف والتوجهات الثقافية المخلتفة ويمارسون التمييز ضدها ويوجهون الإهانة لأتباعها من دون رادع. حدثني مسؤول عراقي بأنه تسلم هدية رمزية من أحد السفراء الأجانب وقد عاد بها إلى منزله في المنطقة الخضراء وعند التفتيش في أحد المداخل، وجه له الحراس الإهانة وأخذوا منه تلك الهدية وحطموها أمام عينيه لأنها لا تتفق مع معتقداتهم الدينية، على رغم أن حيازتها ليست مخالفة للقانون لأنها متوفرة في الأسواق وهي لا تتعارض مع معتقداته الدينية باعتباره يتبع ديناً آخر!
لقد رأيت بنفسي مسؤولين أمنيين يوجهون الإهانات للآخرين، متسلحين بالمذهب والدين والطائفة. ضباط الشرطة والجيش مثلاً يغلقون الشوارع ويمنعون مرور السيارات فيها أثناء المناسبات الدينية الخاصة بطائفة معينة كي يسمحوا للمارة الذاهبين مشياً إلى المراقد الدينية باستخدامها، على رغم وجود ممرات جانبية وأرصفة يمكنهم سلوكها. إن كانت الدولة حقاً تحترم سكانها جميعاً ولا تتدخل في عقائدهم، فلماذا تعطِّل الحكومة حياة السكان جميعاً وأعمالهم ونشاطاتهم في مناسبات تخص جماعة دينية معينة؟
لا شك في أن الدكتور العبادي يعرف بهذه الممارسات، لكنه لم يوقفها حتى الآن، وهذا تقصير وعليه أن يمارس صلاحياته كاملة غير منقوصة فليس هناك ما يمنعه من ممارستها. هناك إجراءات متاحة له قانوناً، منها مثلاً «سحب اليد» من الوزير المقصّر أو المخالف أو فرض الإجازة الإجبارية عليه والسعي لاستبداله عبر تقديم وزير مستقل للبرلمان بدلاً عنه. العبادي تخلى عن صلاحياته طوعاً، على ما يبدو، ولو كان قد مارسها بقوة لما تجرأ أحد على مخالفة القانون والتجاوز على الآخرين.
وهو يعلم أيضاً بأن بعض وزرائه يخالف القانون ويتعسف في ممارسة صلاحياته ويمارس ضغوطاً إجرائية ومعنوية على موظفي المؤسسة التي يديرها ويقصي موظفين، مستقلين أو ينتمون إلى أحزاب أخرى، عن مناصبهم أو يجبرهم على التقاعد قبل بلوغ السن القانونية، لكنه لم يحرك ساكناً، بينما كان عليه أن يحاسبهم وفقاً للصلاحيات الممنوحة له. من غير اللائق برئيس الوزراء أن يصرح علناً بأنه لا يعلم بما فعله وزير خارجيته بخصوص العلاقة بدولة أخرى وأنه سمع بذلك من وسائل الإعلام! مثل هذا التصريح يضعِف موقع رئيس الوزراء ومعه الدولة العراقية برمتها أمام الشعب والدول الأخرى، بينما كان بإمكانه محاسبة الوزير على تصرفاته الانفرادية.
نعم يجب ألا تتدخل الدولة في قضايا العقائد والأديان والأفكار بل ويجب أن تُظهِر حيادَها دائماً في تعاملها مع المواطنين، ولكن مهلاً، ما هي الدولة ومن يمثلها؟ لا شك في أن المسؤولين الكبار، مدنيين وعسكريين، هم من يمثلونها، وأن سلوكهم الطائفي أو المناطقي أو العرقي يعكس انحياز الحكومة لهذه الطائفة أو هذا العرق أو تلك المنطقة على حساب غيرها، وهذا يضعف الدولة ويسبب الانقسام والاحتقان في المجتمع. قد يقول قائل إن المسؤول، كسائر أفراد المجتمع، له معتقداته ومن حقه أن يمارسها. صحيح، لكن المنصب العام يقيد شاغله ومن أراد أن يخدم في المناصب العامة عليه أن يدفع هذه الاستحقاقات ويخدم الجميع، ولا يستفز أي شريحة منهم، لأنه يمثل الدولة التي تسعى إلى تحقيق الوئام في المجتمع.
المؤمنون الحقيقيون يمارسون طقوسهم وعقائدهم بعيداً من الأنظار، فهم لا يبتغون من ورائها سوى مرضاة الخالق، لكن الذي نراه في العراق أن المسؤولين، صغيرهم وكبيرهم، يتسابقون لإظهار إيمانهم وانحيازهم الديني والطائفي حتى وإن كان ذلك رياءً لا إيمانا.
قد يكون للمرونة التي يبديها العبادي مع المسؤولين المخالفين لتوجيهاته ما يبررها، فهو الآن منشغل بمحاربة الجماعات الإرهابية، وسوف ينشغل أكثر مستقبلاً بنزع سلاح الجماعات المسلحة المنضوية تحت لواء «الحشد الشعبي» والمرتبطة بأحزاب سياسية معينة استغلت فرصة التهديدات الإرهابية وفتوى محاربتها لتشكل أجنحة عسكرية تحارب بها خصومها السياسيين. لكن العبادي سيحتاج لأن يكون أكثر حزماً مع المتجاوزين إن أراد حقاً المحافظة على الدعم الشعبي والدولي الذي يتمتع به حالياً. عليه أن يأخذ بمقولة السياسي البريطاني الشهير، ناي بفن، بأن «من يسير وسط الطريق لا بد أن يتعرض للدهم»، أي أن الاستمرار في سياسة إرضاء الجميع محفوف بالأخطار. عليه أن يتصدى بقوة للمسلحين الذين يتمردون على الدولة خصوصاً المرتبطين بالدول الأخرى، لأن هؤلاء يمثلون الخطر الأكبر على استقرار الدولة والمجتمع. قد لا يحتاج حالياً لأن يصطدم بهم عسكرياً، لكن تفعيل دور الأجهزة الرسمية ودعمها بقوة كي تتمكن من أداء دورها، سيجرد الجماعات المسلحة من أي دور وبذلك ستختفي تدريجياً لأنها ستصطدم بأجهزة الدولة الأقوى منها إن أصرت على البقاء. إنها حقاً معركة العبادي الأخيرة، بل هي معركة العراق، وهو قادر على حسمها لمصلحته، لأن هذه الخطوة تحظى بتأييد الشعب وتنسجم مع القانون ومبادئ الديموقراطية وجهود استعادة قوة الدولة وهيبتها، كما تتفق مع رأي المرجعية الدينية التي تعلن استمرار بأنها تدعم سلطة الدولة.
لقد آن الأوان لأن تبدأ هذه المعركة، فالتأخير ليس لمصلحة العراق.