لكي لا ننسى… صور الماضي الجميل ومحنة الحاضر / هيفاء زنكنة

 

 

 

 

لا يمر يوم دون أن يستلم أحدنا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، صورة، مضى على التقاطها عقود من الزمن. هوس الصور القديمة، شخصية كانت او عامة، يزحف بقوة على المواقع الاجتماعية ويتسلل إلينا في رسائلنا الالكترونية من ناس قد نعرفهم أو لا نعرفهم.

لا يقتصر الافتتان بالصور القديمة على المسنين، حسرة على «الزمن الجميل»، حيث الإحساس الشائع بأن الماضي أجمل وأفضل، والعباد أكثر إنسانية وأحسن أخلاقا من الحاضر، بل يتعداه ليشمل الجميع كأسلوب لتوثيق حدث معين (أي الأحداث العامة) يكتسب رمزية عالية، او طريقة لاستعادة ملامح بلد يخافون عليه من الضياع، كما يفعل العديد من العراقيين الآن، إذ ينكبون على تجميع الصور كما الذكريات، لمقاومة محاولات مسح هوية العراق الوطنية وتلفيق تاريخ مستحدث.

على المستوى الشخصي تطفو صور التخرج من الجامعات، السفرات الجماعية والفتيات الأنيقات بألوان زاهية. على المستوى العام نرى النصب والجداريات في الأماكن العامة، دور السينما والمسرح، الآثار، المقاهي، المباني الجميلة والشوارع الفسيحة بلا جدران كونكريتية ونقاط تفتيش عازلة.

تشكل الصور، بالنسبة لمن لم يعش خلال حقبة زمنية معينة يود الاطلاع عليها، الذاكرة التي يتوجب عليه زيارتها ليتعرف على الحاضر ويستشرف المستقبل. فقد تختزل صورة واحدة مرحلة تاريخية بكاملها، فتبقى راسخة في الأذهان وتٌنقل إلى المستقبل كمصدر موثوق به. إنها العين المفردة التي يرى الجميع من خلالها، حينئذ لا تعود مجرد تسجيل آني للحظة، إنها امتداد لما كان وما سيكون. إلى هذا الامتداد، أُضيفت، أخيرا، صورة جديدة، ستكون، يوما، وجها لفترة ركود أخلاقي وانحدار لا إنساني.

في يوم المرأة العالمي، بعيدا عن الخطب والمؤتمرات والبيانات المنددة بالعنف ضد المرأة، تعيش المرأة العراقية، بمدينة الموصل وغيرها، عنفا يستهدف حياتها وعائلتها، ويستهدف العراق متمثلا بها. ففي الأسبوع الماضي، سقطت تصريحات الساسة الذين يحاولون تبييض وجوهم ببودرة « حقوق المرأة»، في سلال مهملات تليق بها، لتبقى في الذاكرة صورة ساهم في تصنيع حالتها عنف الدولة والإرهاب معا. وهي صورة لا تقتصر على المرأة العراقية، فحسب، بل تمتزج عبر الحدود مع المرأة الفلسطينية والسورية واليمنية، بحيث بات من الصعب التمييز بين البلدان والمدن والوجوه.

الصورة التي ستصبح وجها ليوم المرأة، ترينا امرأة في مقتبل العمر، بالكاد قادرة على حمل طفلين يتدليان من ذراعيها مثل نبتة ذابلة، وهي تهرول هاربة، مع مجموعة نساء وأطفال، من جحيم القصف والقتال في الموصل. على وجهها ملامح يختلط فيها الذعر مما يحدث وراءها وما ستلقاه أمامها. إذ ليس هناك ما يضمن الوصول إلى مكان آمن يحميها وطفليها. على شفتيها ما يبدو وكأنها صرخة مكتومة، تماثل لوحة الصرخة للفنان أدوارد مونش، أو لعله الإحساس بالعزلة المطلقة والألم والاشمئزاز من عالم لا يرى ولا يسمع. مشاعر تعجن الوجه لتوثقها عدسة الكاميرا في لقطة لحقبة تخلت عن إنسانيتها.

غالبا ما يقارن الغزو الأمريكي للعراق بالحرب الأمريكية ضد فيتنام، لأسباب عديدة، من بينها ارتكاب الجرائم الوحشية، وحملات الإبادة، والتعذيب. من رش السكان بالنابالم والمواد الكيمياوية في فيتنام إلى استخدام اليورانيوم المنضب والفسفور الأبيض وجيل جديد من النابالم في العراق، إلى ذلك كله تضاف الصور التي باتت رمزا لجرائم لا تغتفر. فمن يستطيع نسيان صورة الطفلة الفيتنامية الراكضة هربا، بجسدها العاري المهترئ احتراقا بالنابالم الأمريكي، التي حَرَك صراخها ضمير الشعب الأمريكي، والتصقت، منذ عام 1962، بجلد كل مسؤول أمريكي ساهم في شن الحرب على فيتنام؟ ومن ينسى صور التعذيب المُذلة لكل ما هو أمريكي (لا أقول عراقي) في أبو غريب وذلك المعتقل، المربوط بالأسلاك الكهربائية، كالمسيح، أيقونة «الديمقراطية» المفروضة بالصدمة والترويع؟ وصورة عمران؟ من ينسى الطفل السوري، الجالس مذهولا بجروحه، ناظرا بحكمة شاهد، رأى ما هو أكثر من سنوات عمره؟ وتمتلك الحروف حشرجة البكاء وهي تستعيد صورة استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة. ويعجز العقل عن استيعاب حجم جريمة اغتصاب الطفلة عبير الجنابي من قبل قوات الاحتلال الأمريكي، عند النظر إلى صورتها واقفة باستحياء أمام عدسة كاميرا، قد تكون لأحد أفراد عائلتها الذين أُحرقوا معها بعد اغتصابها. كيف لعدسة الكاميرا أن تلتقط هذه اللحظات ولا تتخدش من فرط الألم؟

ستبقى هذه الصور، الموثقة لتراجيديا الوعي الإنساني في أكثر اللحظات تأزما، تماثل المواقع الأثرية في أهميتها، بمواجهة رعب لا يتمكن الإنسان العادي من استيعابه لفرط شروره. لأنها تسجل بتفاصيلها ما حدث وتشير إلى ما يمكن أن يحدث مستقبلا. من هذا المنطلق، قراءتها ضرورية كدليل لفهم الأحداث وتحليلها، أكثر أهمية، أحيانا، من الخطب والبيانات الملتحفة لغتها بالتزويق والتلفيق. من هذا المنطلق، أيضا، بجدر بنا، عند الاحتفاء بيوم المرأة العالمي كنساء يؤمن، بحقوق الإنسان ،تفحص صور/ وثائق معاناة النساء والرجال، معا، لئلا يكون اليوم منصة للرطانة الفضفاضة و»غيتو» منعزل محاط بجدران كونكريتية، تشبه جدار العزل العنصري بفلسطين وجدران العزل الطائفي ببغداد، مخصص لـ»مناهضة» العنف الأسري» فقط.

 

٭ كاتبة من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *