إيران بعد خامنئي وبدايات الجدال / أمير طاهري

 

هل تمهد طهران الأجواء لخلافة «المرشد الأعلى» آية الله علي خامنئي؟ بلغت التكهنات ذروة جديدة، في وقت سابق من هذا الشهر، بعد سنوات عدة من الجدل المستتر، وعبر جملة من التصريحات الصادرة عن عدد غير قليل من المسؤولين الإيرانيين البارزين، ومن بينهم تصريح آية الله أحمد خاتمي الأخير في أحد المؤتمرات الصحافية بأن مجلس الخبراء الإيراني، وهو الهيئة المخولة باختيار شخصية «المرشد الأعلى» القادم، قد شكّل إحدى اللجان المكلفة باختيار المرشحين لهذا المنصب الخطير.

وزعم السيد خاتمي في تصريحه بأن اللجنة المذكورة تتابع أعمالها المكلفة بها منذ سنوات، ولقد حددت بالفعل عشرة من الشخصيات المحتمل ترشحهم للمنصب الكبير والذين لن يعرف أسماءهم أحد سوى علي خامنئي فقط.

وتخضع كافة التصريحات والمزاعم للمزيد من الجدال والتساؤلات. فإن السيد خاتمي يريد منا تصديق أنه ليس هناك استعجال في الأمر، وأنه لا يوجد مرشح واحد على وجه اليقين يمكنه البدء في الإعلان عن نفسه كخليفة للمرشد الأعلى على منصبه، في حينه. وعلى الرغم من ذلك، فإن حقيقة نشر المسألة على المجال العام يمكن اعتبارها إشارة على الإلحاح والفورية التي يتسم بهما الأمر. والنقطة المتعلقة بوجود عشرة من المرشحين على المنصب الكبير يُعنى منها درء تركيز الاهتمام على شخصية بعينها من الذين تعتبرهم الأوساط السياسية في طهران من الخلفاء المحتملين للسيد خامنئي.

والزعم بأن مجلس الخبراء الإيراني هو من يختار شخصية المرشد الإيراني الأعلى المقبل هو من المزاعم المفتوحة لاستقبال ما نشاء من الشكوك.

أولاً، أن المرشد الأعلى الإيراني الأول، آية الله روح الله الخميني، لم يتولَ منصبه إثر انتخابات عامة أو خاصة، بل لقد أعلن نفسه بأنه الإمام الجديد، وتصرف في كل شيء كما لو كان يحمل تفويضاً إلهياً مباشراً بذلك. كما أن المرشد الحالي السيد خامنئي لم ينتخبه أحد كذلك، ولكن مجلس الخبراء أعلن أنه المرشد الأعلى الجديد بعد محاولة الرئيس الإيراني الراحل هاشمي رفسنجاني، مؤيداً من قبل السيد أحمد نجل الإمام الراحل الخميني، الإعلان عن أن الإمام الخميني الراحل كان قد عين السيد «علي أغا» خليفة له على منصبه.

ويحمل بيان خاتمي، بوصفه المتحدث الرسمي باسم مجلس الخبراء، إشارة إلى أن خامنئي هو من سوف يُسمي شخصية المرشد الأعلى الجديد، حيث سوف تُرفع إليه أسماء المرشحين المحتملين، مع فكرة ضمنية مفادها أنه يمكنه حذف أسماء من يشاء منهم، مما يعود بدور مجلس الخبراء إلى سابق عهده بأنه ليس إلا مجرد خاتم «تأييدي» من المطاط على قرارات المرشد الأعلى.

وفي الأنظمة الحاكمة التي يملك رجل واحد فيها السلطة المطلقة، أو ربما شبه المطلقة، في شؤون البلاد، فإن مغريات تحديد ملامح المستقبل تبقى أبداً حاضرة.

وبعبارة أخرى، أن الآليات الدستورية الواجب اتباعها في انتخاب «المرشد الأعلى» غير ذات بال في اعتبار أحد.

وغالباً ما يصف المعلقون والكتّاب الأجانب الجمهورية الإيرانية الإسلامية بأنها دولة دينية يسيطر على مجريات الأمور فيها مجموعة من كبار رجال الدين «الملالي». والحقيقة الواقعة هي أن إيران ليست إلا دولة علمانية ترفع الشعارات الدينية الرنانة، ومن خلالها، أُلحق المسجد بالدولة ولم تُلحق الدولة بالمسجد كما هو شائع. وليس منصب «المرشد الأعلى» هو منصب «أكبر رجل دين في البلاد» بأي وحي من إيحاءات الخيال.

فالسيد خامنئي ليس إلا «ملا» من بين 200 من الملالي الآخرين، ولم يعتبره أحد منهم «كبيراً» عليهم في شاردة أو واردة. ومعرفته المحدودة بالعلوم الدينية وبالتاريخ، وإتقانه المحدود للغتين الفارسية والعربية تؤكد أنه لن يعتلي قمة هرم التراتبية الدينية الشيعية في إيران قط. ولقد كان السيد الخميني سياسياً داهية، ويدين بالفضل الأكبر في مركزه الذي احتله على المشهد الإيراني العام إلى نجاح حركته السياسية في مواجهة الكثير من المنافسين والخصوم ليس أكثر.

ومن المعروف أن فقه علي خامنئي في العلوم الدينية ومعرفته بالتاريخ هي بكل تأكيد أرقى مما كانت عليه معارف الإمام الخميني.

كما أن معرفة خامنئي باللغتين الفارسية والعربية هي أفضل من سلفه. وإن كان خامنئي قد اهتم ببناء سمعة طيبة لنفسه ضمن التسلسل التراتبي الديني الشيعي لكانت فرصته أوفر في بلوغ الدرجات العليا من السلم الشيعي بأكثر مما توفر للخميني.

ورغم كل ذلك، لم يرتق خامنئي هذا السلم في يوم من الأيام.

فلقد كان شخصية سياسية منذ لحظة البداية، وخدم في منصب نائب وزير الدفاع من قبل، ثم في وقت لاحق أصبح رئيس الجمهورية.

وحقيقة أن «المرشد الأعلى» أصبح يرتدي العباءة الدينية التي يرتديها غيره من الملالي لا تعني بالضرورة أنه معدود على جملة رجال الدين، ولا تعني أيضا أن رجال الدين هم الحكام الحقيقيون في إيران. عندما تولى الأسقف مكاريوس رئاسة قبرص، لم يكن ذلك يعني أن الكنيسة الأرثوذكسية هي الحاكم الفعلي للبلاد. كما أن رئاسة الأسقف هابيل موزورويا لزيمبابوي لم تكن تعني سيطرة الكنيسة الأنجليكانية على مقاليد الحكم هناك. وحتى الملا حسن، الذي حكم الصومال لفترة وجيزة من الوقت، لم يزعم قط أنه يحكم البلاد باسم الإسلام، بل أطلق على نفسه لقب الشاه. وفي اليمن القديم، كان بمقدور الإمام يحيى الادعاء بأنه يحكم باسم العقيدة الزيدية، بل على العكس من ذلك، فلقد أكد سلطاته السياسية، وليست وظيفته الدينية كعضو من أعضاء هيئة العلماء.

وتبعا لذلك، فإن منصب «المرشد الأعلى» في إيران هو بالأساس منصب سياسي وليس دينياً، وعملية اختيار صاحب المنصب هي عملية سياسية محضة.

وفي أي مجال من مجالات السياسة فإن المهم هو حشد الطاقات والجهود اللازمة لتولي السلطة.

وكان الدفع بالسيد خامنئي لخلافة الخميني على منصبه من العمليات اليسيرة بصورة نسبية.

كان رجال الدين التقليديون حريصين على عدم التورط في مستنقع السياسة، ولم تكن لديهم الرغبة في الدفع بأي من زعاماتهم كمرشحين محتملين للمنصب السياسي الكبير. والأهم من ذلك، كانت خطة رفسنجاني تقوم على توسيع مجال صلاحيات رئيس الجمهورية، المنصب الذي حازه لنفسه فيما بعد، عن طريق تقليص صلاحيات «المرشد الأعلى» في البلاد.

غير أن حسابات رفسنجاني لم تفلح. فلقد تبين أن خامنئي ليس ذلك الملا الهادئ، طيب القلب، الوديع، كما كان يبدو عليه، ولم يكن مهتماً بقرض الشعر بأكثر من اهتمامه بالسيطرة على السلطة؛ إذ جاءت تصرفاته على العكس تماماً من النطاق الذي رسمه له رفسنجاني من خلال توسيع نطاق صلاحيات «المرشد الأعلى».

علاوة على ذلك، في حين أن رفسنجاني بذل جهوده وجل طاقاته في إثراء عائلته وحاشيته المقربة، أحاط خامنئي نفسه بجيل جديد من رجال المؤسسة العسكرية، الرجال الذين يشغلون في الوقت الحاضر كافة المناصب القيادية في الجيش، وفي الحرس الثوري الإيراني، وفي قوات الباسيج، وفي الأجهزة الأمنية بالنظام الحاكم.

وإن قدر لخامنئي، الذي يبلغ الآن 78 عاماً من عمره، أن يعيش عدد السنوات التي عاشها الخميني، فسوف يستمر على رأس السلطة في البلاد لعشر سنوات قادمة. لكن حتى وإن تعثر به الأمر، فإن خليفته لن يتم اختياره من قبل مجلس الخبراء ولكن بواسطة الشبكات العسكرية والأمنية التي تقوم مقام العمود الفقري للنظام الإيراني الحاكم.

تحدث رفسنجاني ورفاقه حول الإصلاحات الدستورية لسنوات طويلة. وفي خطابه الأخير، اقترح تعديل الدستور الإيراني من دون أن يُفصح عما يعنيه بذلك. وانطلقت دعوة مماثلة من آية الله ناطق نوري، الرئيس الأسبق للمجلس الإسلامي، أي البرلمان الإيراني المصطنع. وهناك فكرة مطروحة مفادها إضفاء الصفة الرسمية على الطبيعة السياسية لمنصب «المرشد الأعلى» من خلال دمجه مع منصب رئيس الجمهورية. وهناك فكرة أخرى مفادها نزع الثقل السياسي عن منصب المرشد الأعلى عن طريق تشكيل مجلس من خمسة ملالٍ غير مكلف بشيء سوى اتخاذ القرارات ما إذا كانت التشريعات متوافقة مع تعاليم الدين من عدمه، مما يعني ترقية منصب الرئيس، الذي يتمتع بصلاحيات محدودة في الوقت الراهن، لأن يكون الرئيس الفعلي للدولة، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، وصاحب الكلمة الأخيرة في القرارات السياسية التنفيذية.

يقول نقاد النظام الإيراني الحاكم إن زوال خامنئي يعني زوال الجمهورية الإسلامية الإيرانية نفسها، مما يسمح للشعب الإيراني باختيار مسار مغاير لبلادهم.

وبصرف النظر عما سوف يحدث في قابل الأيام، فهناك أمر واحد شديد الوضوح: إن الجدال قد بدأ بالفعل حول مستقبل إيران بعد رحيل خامنئي.

صحيفة الشرق الأوسط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *