هل انتهى العصر الأميركي /  سلام السعدي  

 

ستكون سياسات الإدارة الأميركية حاسمة في تحديد مصير الولايات المتحدة كقوة إمبراطورية. ولكن ذلك لن يكون واضحا قبل تبين حقيقة تلك السياسات التي تتوارى اليوم تحت دخان الانقسامات والفضائح المتواصلة لإدارة ترامب.

 

تتزايد التحليلات السياسية والاقتصادية المتابعة لتراجع هيمنة الولايات المتحدة الأميركية. وقد صار رائجا، مع تلك التحليلات، التوصل إلى أن أميركا لم تعد “القوة العظمى”، بل أصبحت مجرد “قوة” من بين مجموعة قوى أخرى متزاحمة. فيما ذهب آخرون أبعد من ذلك للإعلان عن أنها باتت على منحدر زلق، وتسير بتسارع نحو حتفها.

 

وجاء انتخاب دونالد ترامب ليعزز ذلك المزاج “التشاؤمي” الذي يسود الولايات المتحدة حول مستقبل الإمبراطورية. بالنسبة إلى الكثيرين، يمثل انتخاب ترامب نهاية للعصر الأميركي. ليست سياساته، التي لا تزال مبهمة، هي التي حددت ذلك، بل تصريحاته وحديثه المتكرر عن الانسحاب من مهمة إدارة شؤون العالم، والتركيز على القضايا الداخلية، أو كما قال في خطاب تنصيبه “إيقاف المذبحة الأميركية”. لكن هذا التيار التشاؤمي قد يكون على خطأ.

 

تعود أولى النزعات التشاؤمية الأميركية، والتي ثبت لاحقا أنها كانت محض وهم، إلى عقد الثمانينات من القرن الماضي. ساد في ذلك العقد الحديث عن “نهاية العصر الأميركي”. كانت الولايات المتحدة قد مُنيت بهزيمة عسكرية وسياسية ونفسية في فيتنام.

 

كما باتت الفجوة بين القوة العسكرية الأميركية الساحقة والإنتاجية المتراجعة تكبر باستمرار. في ذات الوقت، كانت اليابان تحقق نموا كبيرا وسريعا لتبدو كمعجزة اقتصادية متجددة أمام وهن أميركي على كافة المستويات.

 

بالنسبة إلى الكثيرين في حينها، شكلت تلك المؤشرات نذر اقتراب انهيار الإمبراطورية الأميركية. كان الاتحاد السوفييتي، في ذلك الوقت، المنافس الأول للقوة العسكرية الأميركية، ولم يظهر علامات ضعف واضحة، فضلا عن علامات انهيار.

 

بناء على ذلك، ساد مزاج تشاؤمي أميركي طيلة عقد الثمانينات، وباشر الكثير من المثقفين والأكاديميين رواية قصة “صعود وهبوط الإمبراطورية الأميركية”، فيما ناقش آخرون كيف انتهت الهيمنة الأميركية بعد بضعة عقود فقط على بدايتها. ولكن افتتاح عقد التسعينات بانهيار الاتحاد السوفييتي قلب المزاج التشاؤمي واستبدله بآخر انتصاري واحتفالي.

 

خرج فرانسيس فوكوياما ليؤكد انتصار القيم الغربية، وبخاصة قيم الولايات المتحدة، المتمثلة باقتصاد السوق والديمقراطية التمثيلية. ودفع تحليله إلى أبعد من ذلك بإعلانه “نهاية التاريخ”. إذ وصلت مسيرة الحداثة إلى نهايتها، وباتت مجسدة بالغرب الرأسمالي الديمقراطي المجسد بدوره بالولايات المتحدة.

 

وبالطبع، تعاملت الولايات المتحدة مع ما حدث كمنتصر ظافر على كل المستويات. على المستوى الاقتصادي اجتاحت وصفات اقتصاد السوق العالم بدفع من صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة. شمل ذلك المعقل السابق للشيوعية، روسيا الجديدة، والتي أصبحت مقصدا لخبراء صندوق النقد الدولي.

 

على الصعيد السياسي شهدت تلك الفترة تفردا غير مسبوق للولايات المتحدة، حيث دخلت في سلسلة مواجهات عسكرية وحروب، وقادت عمليات عسكرية متنوعة. شملت العراق والكويت، والصومال ويوغوسلافيا وكوسوفو وصربيا واليمن وأفغانستان. ومع انتهاء عقد التسعينات عادت الولايات المتحدة مجددا للعدوان على العراق. وافتتحت الألفية الجديدة بغزو كل من أفغانستان والعراق.

 

حدث كل ذلك في عقد واحد من الزمن. انتقلت الولايات المتحدة من موقع شبيه بحافة الهاوية، إلى موقع يمكن وصفه بالعقد الذهبي للهيمنة والتفرد الأميركي.

 

يبدو أننا نعيش اليوم مزاجا تشاؤميا مشابها لذلك الذي ساد في عقد الثمانينات. ولذلك ما يبرره بالطبع. فالنموذج الاقتصادي الصيني يبدو حيويا للغاية ولا يظهر أن بالإمكان إيقافه. تبدو الصين في طريقها لتصبح قوة اقتصادية مهيمنة، بل إن البعض يجادل بأنها قد أصبحت قوة إمبريالية مهيمنة حتى في أفريقيا.

 

على المستوى السياسي، هنالك شراكة صينية-روسية تهدف بصورة واضحة إلى تقويض الهيمنة الأميركية. وفي هذا السياق يجادل الكثيرون أيضا بأن السياسة الروسية-الصينية قد نجحت إلى حد كبير، وخصوصا مع التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا وفي سوريا، وما يبدو بأنه تسليم بالأمر الواقع من قبل إدارة دونالد ترامب.

 

هل هنالك أي إمكانية بأن يكون المزاج التشاؤمي الحالي محض وهم كما حدث في عقد الثمانينات؟ ربما يعتمد ذلك على الاتجاه الذي سيأخذه تطور القوى العالمية في السنوات العشر القادمة، إذ أن الشراكة الصينية-الروسية قوية ومؤثرة بالفعل، ولكن لا يمكن ضمان استدامتها.

 

قد تبدو الدول التي تغيب فيها المؤسسات الديمقراطية راسخة كما حدث مع الاتحاد السوفييتي، ولكنها أكثر عرضة للانعطافات المفاجئة وتغيير المسار بناء على أحداث سياسية واجتماعية غير متوقعة.

 

لا تزال الولايات المتحدة القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى في العالم، وبفارق كبير عن الصين أقرب منافسيها. الأهم أن حفاظها على موقعها لا يتطلب انهيار النموذج الصيني على غرار ما حدث مع الاتحاد السوفييتي، بل تراجع كفاءته وفاعليته وهو ما يبدو ممكنا في السنوات القادمة.

 

على الطرف الآخر، ستكون سياسات الإدارة الأميركية الحالية حاسمة في تحديد مصير الولايات المتحدة كقوة إمبراطورية. ولكن ذلك لن يكون واضحا قبل تبين حقيقة تلك السياسات، والتي تتوارى اليوم تحت دخان الانقسامات والفضائح الداخلية المتواصلة لإدارة ترامب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *