عقيل عباس يكتب:الأقلية والأغلبية وتزييف الديمقراطية في العراق

أحد التشوهات البنيوية الكبيرة، التي أدت إلى إفشال الديمقراطية العراقية، ترسيخ مفاهيم إشكالية ذات طابع هوياتي، يقوم على الانتماءات القَبْلية،

سواء العرقية أو الدينية أو العشائرية، كالأغلبية والأقلية بمعناهما الجامد، بدلاً من الأغلبية والأقلية بمعناهما السياسي المتغير على أساس الأفكار والقناعات. بعكس الانتماءات الفردية أو الطوعية، التي تتشكل من خلال تجربة المرء في المجتمع، تأتي الانتماءات القَبْلية  قَبْل أن يلج المرء تجربة المجتمع، ومنها اشتُقت الكلمة، إذ هي الانتماءات الجماعية التي يُولد المرء فيها، ويُمنح هوية ما عبرها، إزاء الآخرين ونفسه، مثل أن يولد المرء وينمو بوصفه عربياً أو كردياً أو مسلماً سنياً أو شيعياً أو بوذياً، ولا خيار له في تغييرها أو تعديلها، إلا في سياقات محدودة جداً، فيها الكثير من الصعوبة الاستثنائية والأثمان الباهظة.

الانتماءات القَبْلية، جزء طبيعي من أي مجتمع إنساني، حتى وإن كانت هذه الانتماءات ليست طبيعية، وإنما نتاج لتشكيل اجتماعي متواصل وعميق في الزمن، لكن اعتيادنا الطويل لها يجعلنا نعتقد، خطأً، أنها طبيعية وثابتة.

الحيز الصحيح والمناسب، لمثل هذه الانتماءات وفاعليتها، هو في المجتمع وليس في السياسة ولا القانون، حيث يُصنع تمثيلٌ هوياتي لها فيهما، لأنها في السياقَيّن الأخيرين تُصبح تمييزية الطابع، وتقوض مفاهيم أساسية في الدولة الحديثة، كالمساواة والمواطنة.

في السياق العراقي، يُساعد استخدام مصطلحات، مثل الأغلبية الشيعية والأقلية السنية والكردية، فضلاً عن حشد آخر من المصطلحات الأقلوية الأخرى، كالأقلية المسيحية واليزيدية والصابئية، في منح هذه الانتماءات القَبْلية شرعيةً سياسية وثقافية، وتحويلها إلى أطر سياسية ومؤسساتية أو شبه مؤسساتية، لفهم المنتمين إلى هذه الجماعات البشرية والتعامل معهم على أساسها، بدلاً من بقائها إطاراً فردياً لفهم الهوية يُكيفه الشخص كما يشاء، رفضاً أو قبولاً أو تعديلاً.

يسهم تحويل مثل هذه الانتماءات القَبْلية، من شأن فردي واجتماعي خاص، إلى شأن سياسي ومؤسساتي، في تكريس مفاهيم استبدادية، تخالف روح الديمقراطية، وتقوض القيم الدستورية والقانونية المتعلقة بالمساواة والمواطنة المتكافئة.

فالقبول بهذه المصطلحات، معياراً للفهم والفعل، يسبب تراتبية هرمية غير معلنة، لمعنى المواطنة، يعتمد على علاقات القوة السياسية بين هذه الانتماءات، بدلاً من المساواة غير المشروطة، في ظل مفهوم المواطنة الذي نص عليه الدستور.

في الإطار العراقي، على سبيل المثال، تُعد مفاهيم قَبْلية كالأغلبية الشيعية والأقلية السنية أو الكردية، منافية للديمقراطية والمساواة، لأنها أوتوماتيكياً تمنح الشيعة، بوصفهم المجموعة الدينية الأكثر عدداً في البلد، امتيازات غير معلنة على مواطني البلد الآخرين، كأن يكون رئيس الوزراء شيعياً، أو أن تصبح  قيمٌ  دينية شيعية قيماً سياسية وثقافية تحتفي بها الدولة، سواء بشكل رسمي أو عُرفي، أو على أساس الأمر الواقع (كالمطالبة مثلاً بأن يكون عيد الغدير عيداً رسمياً للدولة، واحتفاء بعض مؤسسات الدولة بالمناسبات الشيعية).

هذا فضلاً عن المظالم، التي تنشأ عن اعتبار الهوية الدينية، وليس المواطنة المتساوية، أساساً في الحقوق كما في الإصرار على تشريع قانون أحوال شخصية، على أساس ديني ومذهبي، ينتهي بالتمييز بين العراقيين بحسب انتماءاتهم القَبْلية، دينياً ومذهبياً.

ينطبق الأمر نفسه على المحاصصة المذهبية العرقية، في توزيع مناصب الدولة العليا، إذ أنها تمييزية بطابعها، بسبب اعتمادها الانتماء القَبْلي معياراً أولياً في الترشح والحصول هذه المناصب.

بخلاف الأغلبية والأقلية الهوياتية الثابتة عبر الزمان والمكان، هناك الأغلبية والأقلية السياسية، الخاضعة للتغير والمَرِنة بطبيعتها، فهي لا ترتبط بالانتماء القَبْلي للشخص، وإنما بأفكاره وآرائه التي عادة ما تتغير بمرور الزمن، بسبب التأثيرات المختلفة، كالنضج الفردي وتراكم التجارب، وتبدل المعتقد السياسي والإطار الفكري، الذي يفهم عبره الشخص العالم المحيط به، لكن الأهم بخصوص هذا المعنى الديمقراطي المرن للأغلبية والأقلية، هو وجود مجتمع سياسي وسياق اجتماعي عام ينظران للمواطنين على أساس أفكارهم وآرائهم وليس على أساس انتماءاتهم القَبْلية. 

في العراق الحديث إثر تَشَكُله كدولة بعد الحرب العالمية الأولى، تبدت هذه الانتماءات القَبْلية في معنى الدولة، عبر تقاطع العرق بالدين، أي العروبة والإسلام، في بنية الدولة وخطابها وسياساتها. عنى هذا أوتوماتيكياً استثناءً مُضمراً من حقوق المواطنة المتساوية للجماعات السكانية العراقية، التي لم يتمثل فيها الإسلام والعروبة معاً، وإحالة هذه الجماعات إلى مواقع الأقليات الدينية والعِرقية، مقابل الأغلبية العربية المسلمة. لكن الطبيعة المرنة نسبياً للنظام الملكي وآلياته شبه الديمقراطية، فضلاً عن طبيعته الطبقية العابرة للانتماءات القَبْلية، خففت حدة هذا الاستثناء في أحيان كثيرة وإن لم تلغه.

في العراق الجمهوري، الذي شكله وأداره العسكريون، وباستثناء فترة حكم عبدالكريم قاسم، برزت الانتماءات القَبْلية، على نحو أشد وضوحاً وضيقاً، لكن عبر تخريجة حداثوية اتخذت شكل القومية العربية في استنادها إلى تأصيل أيديولوجي حديث لمفهوم قَبْلي، هو الانتماء العرقي العربي، الذي جرى عبره أيضاً تعريب الإسلام قومياً.

ساهم الطابع الاستبدادي الشرس، لهذه النسخة من القومية العربية، خصوصاً في عقود الحكم البعثي، في إغفال طبيعتها القَبْلية التمييزية، التي تماهت في ضيقها المتزايد، مع انتماء قَبْلي آخر، لا يقل خطراً تمييزياً عن العِرقية، هو العشائرية في سنوات حكم صدام.

سَهَّلَ هذا الإغفال الثقافي والسياسي العراقي العام، لخطورة اعتماد الانتماءات القَبْلية، كأساس لتنظيم السياسة، وإعادة تشكيل الدولة، في عراق ما بعد صدام، الاندراجَ شبه التلقائي في تجربة أخرى تستثمر في مثل هذه الانتماءات من جديد، لكن بلاعبين مختلفين وبلباس ديمقراطي وتشجيع أميركي قصير النظر.

تقوم المجتمعات الديمقراطية الحديثة الناجحة، على مفاهيم الأغلبية والأقلية السياسية، التي تفرزها انتخابات ديمقراطية وليست الأغلبية والأقلية القَبْلية التي تؤطر انتخابياً، لأن الأولى تضمن تنافساً حراً وعادلاً يستند إلى الأفكار والرؤى، فيما الثانية تكرس التمييز الهوياتي، وتقود إلى الاضطراب والصراع والاحتراب.

عادةً ما يكون هذا التمييز مضمراً في النظام السياسي، إذ لا يُعلن عن نفسه، عبر نصوص قانونية أو دستورية، بل يُسوُق له تحت عناوين مضللة فيها دلالات الحكمة المُجربة، كالعرف والتقليد والضرورة، ويُنفذ عبر صفقات سياسية تستند إلى تواطؤ نخبوي وإذعان مجتمعي.

اتخذت التخريجة المؤسساتية لمثل هذا الترتيبات، تسمية “الديمقراطية التوافقية” التي بموجبها تتحاصص أحزاب سياسية، بوصفها ممثلة لمصالح جماعات قبْلية، في مواقع السلطة ومؤسسات الدولة.

“الديمقراطية التوافقية” تجربة محدودة جداً في التراث الديمقراطي العالمي، إلى حد اعتبارها استثناء من القاعدة، إذ يُلجأ إليها فقط  في حالة البلدان التي تعاني انقسامات اجتماعية حادة على أسس هوياتية، وتحتاج لنجاحها شروطاً صعبة يندر في العادة توفرها في البيئة السياسية لهذه المجتمعات، كقدرة النخب السياسية على التعاون الجاد، لتقديم التنازلات المتبادلة، وعقد الصفقات لتحقيق الاستقرار الاجتماعي، وضمان كفاءة الدولة، والاتفاق على حد أدنى من المصالح العامة المشتركة، التي ينبغي الدفاع عنها دوماً.

ولذلك فإن كثيراً من تجارب الديمقراطية التوافقية في العالم كانت فاشلة، خصوصاً في البلدان التي تفتقر إلى إرث ديمقراطي عريق، كما في لبنان وأفغانستان ويوغسلافيا السابقة، قبل أن ينضم العراق إلى قائمة الفشل هذه.

في عراق ما بعد 2003، أدى تطبيق “الديمقراطية التوافقية” إلى عكس أهدافها، فازداد الانقسام الهوياتي في البلد إلى حد الصراع المسلح، وتعمق مفهوم المكونات على حساب مفهوم الشعب، وتراجعت كثيراً كفاءة الدولة، وتفككت مؤسساتها بين إقطاعات حزبية متنافسة دوماً على الموارد والنفوذ، فضلاً عن غياب الإجماعات الوطنية، على معنى الصالح العام وكيفية الدفاع عنه.

أخيراً، من دون تفكيك الانتماءات القَبْلية، في الحيز السياسي والمؤسساتي العام، وإعادتها إلى مكانها الصحيح كشأن فردي، يتعامل معه المواطنون في إطار حريتهم الشخصية، لا يمكن بناء تجربة ديمقراطية حقيقية في العراق.

الديمقراطية الحقيقية تبدأ بالفرد، وبتأكيد مساواته وحقوقه الأساسية مع الآخرين في المجتمع، في إطار المواطنة المتساوية، وليست بالجماعات وافتراض حقوق وامتيازات أصلية وثابتة لها، لا وجود لها في تراث الديمقراطية الطويل.

المصدر : سكاي نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *