كركوك برميل النار بين بغداد وأربيل /  د. ماجد السامرائي  

 

القرار الكردي بالذهاب إلى الاستقلال التام عن العـراق لن يتقدم خطوة واحدة إلا بعد وضوح وتبلور معالم الجغرافيا السياسية للعراق وسوريا وعموم المنطقة، وإجراء تفاهمات سياسية مع بغداد.

 

منذ وقت طويل كانت كركوك، ومازالت، الفتيل المؤقت للانفجار ما بين بغداد وأكراد العراق لأسباب عدة أهمها أنها أرض الثروة والسلطة. وظلت كركوك نائمة تحت نار خامدة وجاهزة للاشتعال. الطرفان الكردي والحكومي العراقي يعلمان ما تعنيه كركوك كمحرك للأزمات، في العهود السابقة لم تكن الحركة الكردية تضع من كركوك نقطة للصراع القومي والسياسي لأنها كانت تبحث عن حقوق قومية عادلة أعلاها حق تقرير المصير للشعب الكردي، وأدناها حق الحكم الذاتي الذي حصلت عليه عام 1971 ببيان آذار. وبعد عام 2003 ردت القيادة الكردية على عملية تعريب كركوك من قبل النظام السابق بحملة تكريد لا تقل إيلاماً عن سابقتها حيث تم تهجير عشرات الألوف من العرب العراقيين خارج ديارهم.

 

ويبدو أن العملية الجديدة البروتوكولية تهدف إلى التحضير للحظة فرض الأمر الواقع التي يتم الإعلان عنها بأن كركوك “كردستانية”. لا يخفى أن أكراد العراق حصلوا على حقوقهم القومية الشاملة ما عدا الاستقلال، فيما يعاني إخوانهم الأكراد في كل من تركيا وإيران وسوريا الإذلال ومصادرة الحقوق.

 

حقق أكراد العراق من مكاسب أكثر مما حققه باقي العراقيين بعد عام 2003 بل تحولت منطقة كردستان بفضل تلك المكاسب إلى ملاذ للكثير من العراقيين الباحثين عن الأمن والاستقرار لتميزها الأمني عن بغداد وباقي مدن العراق خصوصا المحافظات السنية التي واجهت إرهاب داعش وسياسات البطش والتنكيل الطائفي، ورغم هذه الحالة المستقرة التي أشاعتها قيادة كردستان لكنها صاحبتها بإجراءات إدارية قاسية تدعي السلطات هناك أنها احترازات أمنية ضد دخول المواطنين العراقيين حتى إلى مدينة كركوك غير المحسوم أمرها لإقليم كردستان الذي مازال ضمن حدود الدولة العراقية، حيث يطلب من كل عراقي ينوي زيارة كردستان حصوله على “تأشيرة دخول” مثلما يرغب في زيارة أي بلد عربي أو أجنبي. كما أن هناك مثالا آخر على واقع الاستقلالية عن بغداد أن كل زائر دولي لبغداد عليه أن يزور أربيل، كما أن مسعود بارزاني يُستقبل في زياراته الخارجية كرئيس دولة وليس رئيسا لحزب.

 

أصبحت قيادة هذا الإقليم مركز استقطاب سياسي للمشاريع الأميركية ومنطقة نفوذ لها. كان بإمكان القيادة الكردستانية إذا أرادت العيش في ظل عراق واحد، دون طموح الدولة المستقلة، القبول بحلول التعايش كجزء من العراق وكجزء من منظومة الثروة لكل العراقيين وليس لجزء منه. وبذلك لا يكون مهما من يحكم كركوك من العراقيين. أما إذا أرادت الاستقلال فلماذا تأخذ معها ثروة العراق التي هي ملك للشعب العراقي كله، وعلى مسعود البارزاني ألا يعتبر ثروة كركوك “شنطة مال” يحملها معه إلى دولته الجديدة، فهذا أمر يرفضه عرب العراق جميعهم.

 

وبدلا من أن يصبح نيل الحقوق مفتاحا للرخاء والتعايش والاستقرار أصبح بابا مفتوحا لمشاريع التقسيم الإثني والطائفي في العراق رغم مشروعية الحق القومي للأكراد لقيام دولتهم المستقلة. فإذن لماذا الحديث عن حقوق متساوية في عراق ديمقراطي فيدرالي للعرب والأكراد وباقي الأقليات إذا كانت القصة هي فرض الأمر الواقع في ظل ظروف عراقية وإقليمية معقدة؟

 

وصلت قيادة كردستان إلى قناعة بأن طموحها بالاستقلال عن العراق قد اقترب تحقيقه للظروف الجديدة، داعش احتل ثلث أرض العراق عام 2014 وخلالها تم استبدال حكومة نوري المالكي بحكومة حيدر العبادي، ووضع الأكراد حزمة مطالب قبلها العبادي في حينها، من بينها حريتهم في اختيار المناصب الحكومية المخصصة للأكراد وفق المحاصصة، بينها منصب رئيس الجمهورية وتثبيت الحق المالي بنسبة 17 بالمئة من ميزانية الدولة، وتخصيص ميزانية لقوات البيشمركة، لكن ظروف البلد المالية تعقدت بسبب انخفاض أسعار النفط وما تركته إمبراطورية الفساد من واقع مالي لم تشهده ميزانيات الدولة العراقية من قبل، ووجدت حكومة بغداد أنها غير قادرة على تقديم تلك الالتزامات المالية، في حين تقوم أربيل بتصدير نفط كركوك إلى ميناء جيهان التركي وتستلم الملايين من الدولارات.

 

ورغم الزيارات المتبادلة والتطمينات المؤقتة بسبب الانشغال بالحرب على داعش، إلا أن قيادة البارزاني أخذت تكثف من شغلها السياسي والعسكري للوصول إلى “حدود الدم”، مثلما أسماها البارزاني نفسه في تعبير عن أن جميع الأراضي التي استرجعتها قوات البيشمركة من داعش لن تعود إلى حضن دولة العراق وإنما إلى دولة كردستان المستقبلية. أزمة الثقة تعمقت بعد تصريحات متتالية من البارزاني للتحضير لدولة كردستان الجديدة دون اعتبار لما يثيره هذا القرار من ردود فعل تركية تحمل صداقة خاصة البارزاني، ومن إيران الصديقة لجلال طالباني وحزبه الحاكم في السليمانية وجزء من كركوك.

 

القرار الكردي بالذهاب إلى الاستقلال التام عن العراق لن يتقدم خطوة واحدة إلا بعد وضوح وتبلور معالم الجغرافيا السياسية للعراق وسوريا وعموم المنطقة، وإجراء تفاهمات سياسية مع بغداد. كما أن مصدر حياة الدولة الحلم هو مركز الثروة الدائمة كركوك، وهذا ما يبرر الحرب على هذه المدينة صاحبة الذهب الأسود. ومن المفيد ذكره أن جميع السياسيين العرب داخل العملية السياسية، شيعة وسنة، لم يساوموا على قضية كركوك، ويقال إن من الأسباب الرئيسية لتنحية إبراهيم الجعفري من رئاسة الوزارة عام 2006 هو موقفه من كركوك ومطالبته بأن يكون رئيس جمهورية العراق عربيا وليس كرديا. من هنا كانت خطوة كردستان برفع علم كردستان على المباني الحكومية لكركوك بمثابة جس النبض وإثارة غير موفقة في زمانها ومكانها، فهي حركة استباقية قبيل انتهاء معركة الموصل التي ستعني نهاية داعش في العراق وبداية السيناريوهات السياسية المتوقعة. هذه الخطوة غير دستورية ذلك أن الدستور العراقي يجعل جميع محافظات العراق وضمنها كركوك خاضعة للسلطة المركزية، ما عدا محافظات إقليم كردستان (أربيل والسليمانية ودهوك)، أما وضع كركوك فقد علقه الدستور وقبله قانون الإدارة الانتقالية الذي شرعه الحاكم الأميركي بول بريمر كمدينة متنازع عليها، وهي الفقرة التي أصر الأكراد على وضعها بالتوافق مع الأحزاب الشيعية في دستور عام 2006 ولم يتم حسمها لحد اليوم.

 

المناخ الذي خلقته هذه الخطوة الشكلية دفع بالأطراف المعنية السياسية والاجتماعية العراقية لتؤكد مواقفها مجددا سواء من داخل أحزاب الائتلاف الشيعي الحاكم خصوصا نوري المالكي الذي أشيع عنه بأنه متحالف مع قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني ضد قيادة البارزاني، وكذلك هادي العامري رئيس منظمة بدر مع امتناع مقتدى الصدر عن إعطاء أي تصريح لحسابات تكتيكية، وكذلك عمار الحكيم الذي تربطه علاقات وثيقة بالبارزاني، مرورا بقيادة التحالف السني الذي رفض الإجراء الكردي المذكور.

 

وقد قرر البرلمان العراقي رفض قرار مجلس محافظة كركوك وإبقاء العلم العراقي فقط فوق المباني في كركوك، واعتبار أن ثروة نفط كركوك يجب أن توزع على جميع مدن العراق وهو قرار وطني جريء. في سياق ردود الفعل الإقليمية فقد شجبت تركيا القرار حكوميا وحزبيا، أما إيران فلم تكن ردود فعلها مباشرة لأن كركوك لا تلبي مشاريع نفوذها في العراق مباشرة، وتجد في حليفها الحزب الوطني الكردستاني من يلبي رغباتها تلك، أما أدواتها من الشيعة التركمان فنسبتهم قليلة جدا قياسا على نسبة الشيعة في مدينة تلعفر في الشمال الشرقي من الموصل الرابط المهم إلى سوريا.

 

ممثلية الأمم المتحدة في العراق رفضت الخطوة الكردية، ودعت إلى ضرورة الالتزام بالدستور العراقي. يشعر البارزاني أن المناخ الاستباقي في رفع علم كردستان في كركوك، وما بعده من مظاهر متشنجة سيساعده في الضغط على بغداد وفرض الأمر الواقع استنادا على فرضية ضعف حكومة العبادي رغم تمتعها بالدعم الدولي والعربي في الحرب على داعش، وكذلك شعور البارزاني بأنه قادر على بناء تحالفات سياسية مع مقتدى الصدر وعمار الحكيم من داخل التحالف الشيعي وكتلة إياد علاوي وباقي المكونات السنية القريبة منه إن أعلن دولته الكردية المستقلة خلال عام 2017، يضاف إلى ذلك ما يتمتع به من دعم غير محدود من رئاسة دونالد ترامب وقناعته بأنه سيكسب العرب السنة الذاهبين إلى إقليمهم الطائفي المزعوم. وهذه حسابات لا يمكن الركون إليها في ظل المتغيرات الجديدة في المنطقة.

 

الأكراد ومسعود البارزاني بالذات بحاجة إلى إعادة نظر بقراراتهم الاستفزازية وغيرها من الإجراءات. بعد داعش ستكون الخيارات حاسمة؛ إما أن يكون الأكراد مع العراق، وإما أن يذهبوا إلى دولتهم الوليدة ولكن، حسب عرب العراق، من دون كركوك.

 

كاتب عراقي

د. ماجد السامرائي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *