سعد سعيد الديوه جي يكتب :الهلال الخصيب – قرن آخر من الاضطرابات والتقسيم

منذ نهاية الحرب العالمية الأولى (1918م)، والى حد الآن لم تعرف منطقة في العالم من الاضطرابات والحروب والإنقلابات الداخلية والفتن الطائفية مثلما عرفته منطقة الهلال الخصيب.


وهذا المصطلح جغرافي اطلقه عالم الآثار الأمريكي هنري برستد على منطقة واسعة من الشرق الأوسط، تشمل حوضي دجلة والفرات والجزء الساحلي من بلاد الشام ويمتد بعض الاحيان ليشمل حوض دلتا النيل في مصر، والمصطلح يستخدم في الدراسات الأثرية، لأن هذه البلاد كانت مهداً لحضارات كثيرة، ثم صار له استخدام سياسي واسع، خصوصاً وانه يغطي معظم أراضي الدول التي شملتها اتفاقية سايكس – بيكو (1916م)، حول تقاسم النفوذ بين بريطانيا وفرنسا وذلك قبل هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (1918م).


والدول التي نشأت على ضوء تقاسم النفوذ هي العراق المتكون من ولايتي البصرة وبغداد، وسوريا وشرق الاردن وفلسطين، وكان أهم تعديل طرأ على خطوط الاتفاقية إلحاق ولاية الموصل بالدولة العراقية الناشئة، والتي بقت تركيا تطالب بها في معظم أدبيات السياسة والى حد الآن بعد ان كانت ضمن النفوذ الفرنسي.


وهذه المنطقة كما هو معروف غنية بالموارد المائية والمعدنية وخصوصاً النفط والغاز، وذات موقع ستراتيجي يمثل القلب بين اوروبا وآسيا، وكانت هذه الأسباب من أهم الدوافع للغزوات الإمبريالية قبل قرن من الزمان و لحد الآن، وكما يقول نعوم تشومسكي في كتابه (صناعة المستقبل)، “في الواقع لا يصعب فهم سبب القلق بشأن نفط العراق فهو يضم على الارجح ثاني اكبر احتياطي نفطي في العالم وان كلفة إستخراجه زهيدة جداً بالمقارنة مع غير من النفوط بالعالم”.


ولا شك بأن احد اهم اسباب عدم استقرار المنطقة، قيام دولة إسرائيل وما صاحبها من حروب مستمرة مع العرب نتيجة اطماعها التوسعية.


خلال هذه المئة سنة الأخيرة لم تعرف المنطقة الاستقرار والإزدهار بعد تقسيمها حسب مصالح بريطانيا وفرنسا المنتصرتين في الحرب، ولا زال شبح التقسيم يخيم على المنطقة الى حد الآن ولكن بسيناريو مختلف ولأسباب تغيرت مع الزمن، وان ما تتداوله الأدبيات السياسية الغربية حول خارطة جديدة لدول المنطقة ليس خيالاً، ولكنه ينطلق من متغيرات تختلف عن الماضي والهدف واحد هو المصالح المنشودة للدول الكبرى وخصوصاً الولايات المتحدة وما تضم تحت جناحيها في حلف شمال الأطلسي من قوى مؤتلفة كدول الإتحاد الاوروبي وبريطانيا وتركيا، ولاننسى ان المصالح نفسها في حالة صِدام، وسنرجع الى الماضي لتأخذ مثالاً عن كيفية التقسيم، حيث تم وضع العراق وشرق الاردن وفلسطين تحت الإنتداب البريطاني، وكان الإنتداب اسماً مهذباً للاحتلال، فتم تأسيس مملكة العراق وتنصيب فيصل بن الحسين ملكاً بعد استبعاده عن دمشق وتأسيس إمارة شرق الأردن، وكان على رأسها عبد الله بن الحسين شقيق فيصل، ويومها قال وزير المستعمرات البريطاني الشهير ونستون تشرشل “تم تأسيس إمارة الأردن بين اعقاب السجائر وكؤوس الويسكي”!.


وبقت فلسطين تحت الإنتداب تهيأة لوعد وزير خارجية بريطانيا بلفور (1917م)، الذي وعد اليهود بتأسيس وطن قومي لهم في فلسطين.


وكان الفرنسيون قد نصبوا فيصل بن الحسين حاكماً على سوريا (1918م)، وبعد معركة ميسلون (24 يوليو 1920م) التي إشترك فيها مع القائد العربي يوسف العظمة تعرض الجيش العربي لخسارة كبيرة تم استبعاد فيصل بن الحسين على اثرها للعراق بعد التفاهم مع البريطانيين لتنصيبه ملكاً هناك كما ذكرنا آنفاً.


بعد هذه الأحداث إرتأى الجنرال هنري غورو قائد الحملة الفرنسية تقسيم سوريا الى خمس دويلات على أساس طائفي بعد ان لفظت الدولة المصطنعة انفاسها عقب معركة ميسلون، وهذه الدول هما دولتي دمشق وحلب واغلبيتهما من العرب السنة بدون منفذ على الساحل، ودولة العلويين (النصيرية) على الساحل، ودولة لبنان الكبير ذي الأغلبية المسيحية آنذاك، ودولة جبل الدروز، وبقي لواء الأسكندرونة تحت الإدارة الفرنسية، ثم تنازلت عنه فرنسا الى تركيا عام (1938م) وبقى كذلك الى حد الآن.


واستمرت اللعبة الفرنسية فحاولت كل السبل لبسط سيطرتها، فقامت بإنشاء إتحاد فيدرالي مهلهل بين دول دمشق وحلب والعلويين عام (1922م) تحت اسم الإتحاد السوري، الذي تم الغاؤه عام (1924م) ثم تبعها اعلان “دولة سوريا”، بين دمشق وحلب، بينما بقت دولة العلويين وعاصمتها اللاذقية ودولة الدروز في هضبة الجولان المطلة على فلسطين خارج هذا الكيان حتى عام (1936م)، واستمر الأمر كذلك حتى اعلان الاستقلال عام (1946م).


في هذه الفترة كانت دولة العراق اقل تقلباً في الشؤون الداخلية خصوصاً بعد قرار عصبة الامم بضم لواء الموصل نهائياً للعراق عام (1925م) واعلان استقلاله الشكلي عام (1931م)، وكانت هناك بعض الأحداث المثيرة كإنقلاب بكر صدقي عام (1936م)، وحادث موت الملك غازي الغامض عام (1939م)، وحركة رشيد عالي عام (1941م)، ضد الوجود الإنجليزي وربما بتحريض من المانيا آنذاك التي كانت خصم بريطانيا في الحرب العالمية الثانية.
مع انتهاء الحرب الثانية إزدادت المشاعر القومية والاشتراكية في مناهضة الوجود الاجنبي في كل العالم الاسلامي وخصوصاً في المنطقة، وبسبب قيام دولة اسرائيل عام (1948م)، واندحار الجيوش العربية المشاركة في الحرب ضدها، فتكونت الأحزاب القومية بمسحة اشتراكية تدعو للوحدة، ومن أهمها حزب البعث العربي الاشتراكي الذي سيطر على الوضع السياسي في العراق بعد تقلبات عديدة الى أن أطيح به بعد إحتلال العراق عام (2003م)، بينما بقي يحكم سوريا ظاهرياً الى حد الآن، ولم يكن جناحا الحزب في سوريا والعراق على وفاق مطلقاً في كل النواحي مما يلقي ظلالاً ن الشك قوية حول هوية الحزب وما شاكله من حركات قومية خصوصاً وان المنطقة عانت من عدة حروب مع اسرائيل وكان شعار هذه الحركات والأحزاب تحرير فلسطين وتوحيد العرب من المحيط الى الخليج، بالإضافة لذلك كانت الحركات الإيديولوجية التي تتبنى الاسلام كمنهاج سياسي لها حضور متميز كالإخوان المسلمين وحزب التحرير، والتي لم تكن على وفاق مع الأحزاب القومية ان لم يكن صِداماً علنياً رغم ما اتفقوا عليه من تحرير فلسطين والقدس، وفي ذلك دلالة على الضعف الإيديولوجي الرابط بين هذه الحركات التي لم يكن لها منهج سياسي واضح سوى إستغلال العاطفة الدينية لدى الناس.


من بين هذا الركام القومي والديني برزت على الساحة في المنطقة الطائفية بشكل لم تعهده منذ القرون الوسطى وخصوصاً بعد احتلال العراق وقيام الثورة في سوريا عام (2011م)، التي جعلت من البلد ركاماً كبيراً، ولم يكن لبنان في حال احسن من ذلك لتبدو المنطقة في حالة غليان مستمر مع وجود اجنبي مختلط في سوريا من قوى اجنبية وإقليمية ووجود أمريكي مع تحالف دولي لا غبار عليه في العراق منذ تشرين الثاني 2007م عندما وقع الرئيس الأسبق بوش مع الحكومة العراقية “اعلان مبادي” يتجاهل فيه الكونغرس الأمريكي والبرلمان العراقي وشعبي البلدين كما يقول نعوم تشومسكي، حيث ابقى هذا الاعلان المجال مفتوحاً امام إحتمال وجود عسكري امريكي بعيد الأمد وغير محدد في العراق وفي المنطقة عموماً، ومن المؤكد ان هذا الوجود تدعمه اتفاقيات غير معلنة وتفاهمات مع روسيا واسرائيل وتركيا حول مستقبل المنطقة، في حين يلعب الصِدام بين اسرائيل وإيران بعداً آخراً لتشابك الأمور في المنطقة، ناهيك ان هنالك قضايا تختلف عن الماضي بشكل حاد وكبير ألا وهي وجود الميليشيات العسكرية ذات الطابع القومي والديني مع عدم إختفاء تأثير المنظمات الإرهابية، وانتشار التخلف الثقافي والاقتصادي بكافة الوانه، والفساد يزيد من تعقيد المنطقة واستقرارها.


فقبل مئة عام لم يكن سكان المنطقة على استعداد للتضحية بوحدتهم وتآلفهم ووطنيتهم، ولم تكن للطائفية اثر واضح في المنطقة، حتى القومية لم يكن لها تلك الدوافع في تمزيق المنطقة، فهل سيعيد التاريخ نفسه وتتكرر التجربة الفرنسية في سوريا، وهل ستكون مناطق جديدة تتحد فيما بينها على اساس فيدرالي برعاية خارجية لكي تضمن أمريكا وحلفاؤها مصالحهم وكذلك روسيا، فلم تعد الديمقراطية مهمة الا اذا كانت تتماشى مع الأهداف الاستراتيجية والاقتصادية للاعبين الكبار، وكل الإحتمالات واردة في منطقة منكوبة تزداد مشاكلها وتتعقد مع الأيام ويكثر فيها الفساد كزبد البحر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *