د . حسين جابر الخاقاني يكتب: تزايد الانفاق العام وتدني الخدمات


في اعقاب الثورة الصناعية في اوروبا ( بين 1760 و 1840 ) اخذ الكيان الاقتصادي للحكومات بالتوسع حتى صار هو الاكبر والاكثر سيطرة في اي دولة ، وهذا التوسع انعكس في الانفاق الحكومي الذي يتزايد بتزايد حجم الحكومة وسياساتها الاقتصادية التوسعية لممارسة واجباتها تجاه المجتمع المتمثلة في حماية امن المواطن وممتلكاته في الداخل وحماية الوطن من الخارج ، وتوفير الخدمات العامة ، وتحقيق العدالة والتوزيع العادل للثروة بين المجتمع . فالتأهب الامني والاستعداد المستمر لحماية المواطن وممتلكاته تتطلب الانفاق الحكومي ، والخدمات العامة كالطرق والجسور وشبكات الماء والصرف الصحي والحدائق العامة وغيرها مما يتوجب على الحكومة القيام به تتطلب الانفاق الحكومي ايضاً ، كذلك يتوجب على الحكومة ان تسن القوانين لتنظم حياة المجتمع وتحافظ على حقوقه وتحقق العدالة في توزيع الحقوق والثروات وتحقيق المساواة بين ابناء المجتمع وهذا بدوره يتطلب انفاقاً حكومياً .
تلك المهام والواجبات يقوم بها الموظفون في الخدمة العامة ويحصلون مقابلها على مرتباتهم الشهرية وتلك المرتبات جزء مهم من الانفاق الحكومي والذي يسمى بالانفاق العام . فما هو الانفاق العام ؟ وما هي الخدمات العامة التي تقدمها الحكومة ؟
الانفاق العام ، هو ببساطة مجموع المبالغ النقدية التي تنفقها السلطة العمومية لشراء السلع والخدمات وتقديمها للجمهور بشكل سلع وخدمات عامة .
ينقسم الإنفاق العام إلى إنفاق عام رأسمالي ( استثماري أو إنتاجي ) وإنفاق عام استهلاكي ( جاري ). فالإنفاق العام الاستثماري يؤدي إلى تحقيق زيادة مباشرة في الدخل القومي الجاري من خلال المكافآت (الأجور والمرتبات ) التي تتولد لعوامل الإنتاج المشاركة في حدوث هذا الدخل ، بالإضافة إلى زيادة المقدرة الإنتاجية للدولة . والإنفاق العام الاستهلاكي يؤدي أيضا إلى زيادة المقدرة الإنتاجية من خلال الخدمات التعليمية والصحية والثقافية والتدريب ، بالإضافة إلى إسهامها في زيادة الناتج القومي الجاري . اضافة لذلك جزء من الانفاق العام يقدم بصيغة الإعانات العامة الاقتصادية التي تُعطى للمشروعات الخاصة والعامة تؤدي إلى زيادة معدل أرباح تلك المشروعات وزيادة مقدرتها الإنتاجية. كما أن تحقيق الاستقرار الضروري للعملية الإنتاجية يتطلب الإنفاق العام التقليدي على خدمات الدفاع والأمن والعدالة .


وبذلك يشكل الإنفاق العام جزء هام من مكونات الطلب الفعلي ( أو الطلب على السلع الاستهلاكية والاستثمارية )، وهو ما يؤثر تأثيرا مباشرا على حجم الإنتاج ، على أن يكون مستوى النشاط الاقتصادي أقل من مستوى التشغيل الكامل لعوامل الإنتاج ( الأرض والعمل ورأس المال )، وأن يتمتع الجهاز الإنتاجي بالمرونة اللازمة التي تسمح بانتقال عناصر الإنتاج فيما بين الأنشطة الاقتصادية المختلفة.
أما الخدمات العامة ، فهي خدمات الامن والدفاع والرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية ومشاريع البنية التحتية من الطرق والجسور والانفاق وشبكات الكهرباء والسدود الخ . وبذلك يكون هدف الانفاق العام هو لتقديم الخدمات العامة . تتوزع نفقات الحكومة الى النفقات التالية :
نفقات لتقديم الخدمات العامة ، فالحكومة اذن تحتاج الى شراء سلع وخدمات استهلاكية، مثل الخدمات الصحية والتعليمية والثقافية وخدمات الدفاع والأمن والعدالة . وبذلك فإن الدولة تكون مستهلكة عند الإنفاق على إشباع تلك الحاجات العامة للأغراض تتعلق بأداء الوظيفة العامة أو تلزم للموظفين العموميين أو عمال المرافق العام . ومثال ذلك النفقات التي تدفعها الدولة من أجل تنظيف وإضاءة وصيانة مبانيها الحكومية أو هيئاتها العامة ، ولشراء الأجهزة والآلات والمواد الأولية التي تلزم للإنتاج العام .


نفقات لموظفي الخدمة العامة ، تمنح الدولة لموظفيها وعمالها نفقات في صورة مرتبات وأجور ومخصصات مقابل ما يؤديه هؤلاء من أعمال أو خدمات . فالدخل الذي يحصل عليه الأفراد هنا يتوجه في اغلبه نحو الاستهلاك المستمر ، وهذا يؤدي بدوره إلى زيادة الإنتاج من خلال زيادة الطلب على السلع والخدمات المطلوبة.
ومن الطبيعي ان المشتريات الاستهلاكية الحكومية ليست كلها من الانتاج المحلي لعدم توفرها محلياً فهناك نسبة من المشتريات تتوجه نحو السلع المستوردة التي تدفع اقيانها بالعملة الاجنبية ، كما ان مشتريات الموظفين من السلع الاستهلاكية تتوجه ايضاً الى السلع المستوردة لذات السبب وهذا ما يسبب في خسارة للموارد من العملة الاجنبية .


هل هناك فعلاً قصور في الانتاج المحلي للسلع الاستهلاكية ؟ الجواب كلا .. فالانتاج المحلي الزراعي لقائمة طويلة من السلع الزراعية يتم انتاجها قادر على تغطية الحاجة المحلية مع فائض لبعض المنتجات ، وتغطية نسبة عالية من الحاجة لمنتجات اخرى ، لكنها تتعرض الى منافسة شديدة من مثيلاتها المستوردة بسبب عدم وجود حماية للمنتج الوطني واغراق الاسواق بالكثير من المنتجات الرخيصة واحياناً متضررة او على وشك انتهاء صلاحيتها مع غياب الرقابة الصحية ورقابة الجودة . مما قلص النشاط الزراعي كثيراً وتحول المنتجون الى مستهلكين للسلع المستوردة .


نفس الحال ينطبق على الانتاج الصناعي الوطني والذي تعود ملكية قسم منه للحكومة والاخر للقطاع الخاص .


ان ما ينفق من العملة الاجنبية لشراء السلع التي يمكن انتاجها محلياً يدخل في باب الهدر الاقتصادي للموارد او سوء الادارة الاقتصادية المؤدي الى هدر الموارد . فكيف نفسر استيراد الخضر والفواكه التي يستطيع المنتج المحلي من تغطية الحاجة المحلية منها ؟ ، وكيف نفسر اغراق السوق المحلية بالبيض والدجاج المستورد ومنتجات الالبان المختلفة وفي مقابلها محطات تربية الدواجن وتربية الابقار مغلقة او معطلة ومعامل انتاج الالبان معطلة ؟ ، وكيف نفسر حرق الغاز المصاحب للنفط بشكل مستمر منذ تسعين عاماً ولحد الان ونستورد غاز الطبخ والغاز السائل المغذي لمحطات انتاج الكهرباء ؟ .. اسئلة كثيرة لا نجد لها اجابة سوى ضعف الدولة المؤدي الى سوء الادارة الاقتصادية .


وبهذا تحول الاقتصاد العراقي شيئاً فشيئاً من اقتصاد منتج الى اقتصاد مستهلك معتمد على تصدير سلعة واحدة وتنميته الاقتصادية مرهونة بها .

ان التوسع في الانفاق العام هو جزء من السياسة الاقتصادية التي تتبعها الحكومة لانعاش الاقتصاد وزيادة القاعدة الانتاجية وتحقيق تنمية اقتصادية تنعكس اثارها الايجابية على كل المجالات كتقليص نسبة الفقر وتخفيض نسبة البطالة تحسين مستوى الخدمات الصحية والتعليم وغير ذلك . فقد تزايد الانفاق العام من 100 ترليون دينار عام 2017 الى 104 ترليون عام 2018 ليصل الى 133 ترليون دينار عام 2019 . والنفقات الجارية فقد كانت 75 ترليون و 79 ترليون و 100 ترليون للسنوات الثلاث على التوالي وتشكل النفقات الجارية حوالي 75% من النفقات العامة . وهذه نسبة تعتبر عالية وأثرها سلبي ، فالملاحظ ان القاعدة الانتاجية في تقلص مستمر ومقتصرة على انتاج النفط الخام وبعض المنتجات الزراعية ، وان نسبة الفقر في تزايد وانخفاض مستوى التعليم وزيادة نسبة الامية وزيادة البطالة والبطالة المقنعة وانخفاض مستوى الخدمات الصحية وتزايد الاستيراد للسلع الاستهلاكية بشكل كبير . كل ذلك جعل من التوسع في الانفاق العام لا يخدم تطور القاعدة الانتاجية ولا التنمية ولم يتم التوظيف الكامل لعناصر الانتاج المحلية المتاحة من ارض وعمل ورأسمال وبالتالي الحجم الكبير للانفاق العام يعكس لنا تدني قدرة الحكومة على ادارة الملف الاقتصادي وحصول هدر كبير في الموارد . ويقتضي الان التفكير العلمي والمنطقي في طريقة توجيه وادارة الانفاق العام بما يحقق متطلبات التنمية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *