هل يرتفع علم «مهاباد» في كردستان؟ الحياة: سليم نصار رصد عراقيون
بعد الغزو الأميركي للعراق (2003)، قررت إدارة الرئيس جورج بوش الابن تعيين «مفوض سامٍ» بهدف الإشراف على تصفية نظام صدام حسين، واستبداله بنظام ممثل لمختلف شرائح المجتمع. ولما فشل «المفوض السامي» الأول في أداء المهمة الموكلة اليه، تم تعيين بول بريمر مكانه بعد تزويده بسلطات واسعة انتهت بوضع دستور جديد لنظام حكم جديد.
وكانت المفاجأة الكبرى التي عبّرت الإدارة الأميركية عن تصورها لحل العقدة الطائفية… توزيع المناصب السيادية على النحو التالي: رئيس الجمهورية (كردي)، رئيس الحكومة (شيعي)، رئيس مجلس النواب (سنّي). في ضوء هذا التوزيع الطائفي، اختير الكردي جلال طالباني، زعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، رئيساً للجمهورية. كذلك اختار بريمر الكردي هوشيار الزيباري وزيراً للخارجية، الأمر الذي وضع في عهدته مصادر العلاقات الدولية.
وكان واضحاً من توزيع هذه المراكز أن واشنطن مهتمة بمنح الأكراد الفرصة التاريخية التي حُرِموا منها منذ سنة 1946. أي منذ أعلنت «جمهورية مهاباد» التي دعمها السوفيات، وأنشئت في إيران برئاسة قاضي محمد. ولما انسحب السوفيات بعد فترة قصيرة دخلت القوات الإيرانية الى هذه المنطقة لتطرد منها الأكراد وتلغي الجمهورية.
ومن أجل تغيير الواقع الجديد الذي نتج من تخلي السوفيات عن الأكراد وتدخل إيران لمنعهم من إنشاء دولة خاصة بهم، قام مصطفى برزاني (والد مسعود) بإعلان الثورة المسلحة من داخل العراق سنة 1961. وقد تعرضت تلك المحاولة لحملات شرسة قامت بها الحكومات العراقية، وخصوصاً في زمن حكم حزب «البعث». ولكن المقاومة الصلبة التي أظهرها مقاتلو الأكراد أجبرت قيادة الحزب، التي كانت مشغولة بحلّ خلافات زعمائها، على الرضوخ وقبول منح أكراد كردستان حكماً ذاتياً.
ولكن ذلك التعهد لم يبصر النور، لأن معاهدة الحدود الدولية وحسن الجوار بين العراق وإيران نسفت محاضر التعهدات السابقة. كل هذا بسبب الوساطة التي قام بها الرئيس هواري بومدين، والتي جمعت شاه إيران مع صدام حسين (6 آذار- مارس 1975).
وبالنظر الى اتفاق الطرفين لإعادة الأمن على طول حدودهما المشتركة، فقد تعهد الشاه بالتوقف عن تأييد ثورة مصطفى برزاني. ولقد استغل صدام تلك الهدنة مع إيران ليقوم بحركة ثأرية واسعة ضد الأكراد انتهت باستخدام غاز الخردل في بلدة «حلبجة». وكان من نتيجة تلك العملية قتل خمسة آلاف مدني، نصفهم من النساء والأطفال. وأتبع هذه المجزرة بتدمير عشرات القرى الكردية أيضاً. وكان من الطبيعي أن يتلقى مصطفى برزاني ذلك الانكسار المعنوي بكثير من القهر واليأس، الأمر الذي دفعه للجوء الى الولايات المتحدة حيث توفي هناك سنة 1979.
عقب احتلال العراق، شعر الأكراد بأن الاهتمام الذي أظهرته واشنطن نحوهم يمكن أن يفتح أمامهم الأبواب الدولية الموصدة، ويشجعهم على تكرار المطالبة بدولة قومية مستقلة. ومن المؤكد أن الزيارات التي قام بها زعماؤهم الى الولايات المتحدة أقنعتهم بأن الشعارات التي طرحها الرئيس وودرو ويلسون سنة 1918 ما زالت مطبقة. أي الشعارات التي أعلنها بعد الحرب العالمية الأولى، والتي طالب عصبة الأمم بضرورة تبنيها. وهي شعارات مؤلفة من أربعة عشر بنداً، أهمها البند المتعلق بالدعوة الى تحرير كل الدول المستعمَرَة، ومنح حق تقرير المصير للشعوب المطالبة بالاستقلال.
سنة 2010، زار رئيس إقليم كردستان مسعود برزاني واشنطن، ليطرح مع المسؤولين في واشنطن سؤالاً واحداً، خلاصته: هل يعني قرار انسحاب القوات الأميركية من العراق تخليها عن كل التعهدات التي قدمتها لزعماء كردستان بأن تدعمهم وتساندهم لبناء دولة مستقلة؟
كل الأجوبة التي صدرت عن البيت الأبيض ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع كانت إيجابية وواعدة ومشجعة. والثابت حالياً أن الموقف الأميركي الرسمي قد تبدل، أو على الأقل يميل الى تبني موقف بغداد الداعية الى إرجاء عملية الاستفتاء، الى حين الانتهاء من تصفية عناصر «داعش».
ولكن هذا الربط لم يرق لمسعود برزاني الذي يرى في التأجيل مؤشرات خطرة تنبئ بنيات مبيتة لدى الدول المتضررة من استقلال كردستان، وفي مقدمها إيران وتركيا وسورية. وقال للوفود الأجنبية التي زارته قبل أسبوعين إنه على استعداد لقبول مبدأ التأجيل، شرط أن يتمثل البديل في ضمانات دولية توقعها الأطراف المعنية مباشرة بالأزمة مثل بغداد وطهران وأنقرة. والمطلوب أيضاً أن تكون الضمانات مكتوبة، مع تحديد الموعد الآخر، ثم توضع كل هذه الأوراق في عهدة أمين عام الأمم المتحدة.
هذا المطلب قابلته إيران بتصريح ناري أعلنه قاسم سليماني مفاده بأن «إيران لن توقف الحشد الشعبي إذا نفذ هجوماً على كردستان.» في الموازاة، قال وزير الدفاع التركي نور الدين جانيكلي: إن أنقرة لن تسمح بإقامة دولة على أساس عرقي. وهذا الموقف ناتج من مخاوف الرئيس اردوغان الذي يعرف أن عدد الأكراد في بلاده يزيد على 15 مليون نسمة، في حين تضم اسطنبول وحدها خمسة ملايين.
ويظهر أن إصرار مسعود برزاني على إجراء الاستفتاء يوم 25 من الشهر الجاري – أي يوم الإثنين المقبل – هو الذي أدى الى استنفار سياسي واسع لدى الدول المتضررة. خصوصاً أن تحقيق دولة كردستان سيدفع أكثر من أربعين مليون كردي موزعين بين إيران وتركيا وسورية، الى التمرد وطلب الاستقلال. عندئذ تكون هذه المحاولة قد فتحت صندوق باندورا بكل ما يحويه من تناقضات ونزاعات تاريخية وجغرافية وطائفية.
آخر وساطة نقلها الى السليمانية رئيس الجمهورية العراقية فؤاد معصوم، ثاني رئيس كردي بعد جلال طالباني. وربما اختير للقيام بهذه المهمة من جانب رئيس الوزراء حيدر العبادي، كونه ينتمي الى البلد الذي يسعى الى الانفصال عن البلد الذي يمثله. ومن المؤكد أنه حمل معه مجمل نصوص الاقتراح الذي قدمه أمين عام الأمم المتحدة.
تدّعي بغداد أن إصرار مسعود برزاني على إجراء الاستفتاء في هذا الوقت هو نتيجة الوضع الداخلي غير المريح الذي يعانيه الإقليم منذ سنتين تقريباً. ويتردد في كردستان أن هذا الوضع نتج من الأزمة البرلمانية التي فجرتها «كتلة التغيير». وهي كتلة تتألف من 24 نائباً معارضاً. وحدث مرة قبل انعقاد مجلس النواب أن منع رجال الأمن أعضاء هذه الكتلة من الوصول الى المجلس. وكان من الطبيعي أن تقاطع هذه الكتلة جلسات المجلس، الأمر الذي استدعى التأجيل المتواصل وتعطيل الحياة البرلمانية (منذ تشرين الأول- أكتوبر 2015).
ويرى المراقبون أن كل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية يمكن أن تتأجل في حال نجح برزاني في تحقيق حلم الأكراد. وهو حلم استرداد جمهورية «مهاباد» التي تأسست في إقليم كردستان الإيراني سنة 1947. ولكنها لم تعمر أكثر من سنة واحدة. أخبرني أحد مساعدي برزاني أن حلم الاستقلال ظهر أول مرة لمسعود سنة 1991. وكان ذلك إثر إعلان القرار الدولي رقم 688 الصادر في نيسان (ابريل) من تلك السنة. وأطلق المجتمع الدولي على منطقة شمال العراق اسم «المنطقة الآمنة»، لأن طائرات صدام حسين كانت ممنوعة من التحليق فوقها، إضافة الى تحجيم السيادة المطلقة للدولة العراقية في ذلك الإقليم. في ظل هذا الواقع، تطورت فكرة الاستقلال والسيادة، لأن مصير الإقليم أصبح في أيدي أبنائه. لذلك، شهد طفرة عمرانية وتجارية لم يعرفها أي بلد عربي آخر.
بقي السؤال المهم: هل ينجح مسعود برزاني في كسب معركة الاستفتاء على استقلال كردستان، أم أن الضغوط الإقليمية والدولية ستمنعه من تحقيق هذه الأمنية؟
عن هذا السؤال أجاب برزاني أحد المراسلين الأجانب قبل فترة قصيرة، فقال: «أنا ولدت في 16 آب (أغسطس) سنة 1946 تحت العلم الكردستاني. وكان ذلك اليوم الذي تأسس فيه «الحزب الديموقراطي الكردستاني». وأعني بالعلم الكردستاني… علم جمهورية «مهاباد». وظل والدي مصطفى يحتفظ بهذا العلم، ثم تسلمته منه كأمانة ثمينة. ولي ملء الأمل بأن يرتفع هذا العلم فوق كل مؤسسة وكل منزل في كردستان.»
بكلام رمزي، فإن مسعى برزاني يشبه لعبة الروليت الروسية. ففي المسدس طلقة واحدة. وعليه أن يجرب حظه بطلقة فارغة أم بطلقة قاتلة؟ وفي بغداد وطهران وتركيا وسورية ينتظرون يوم الضغط على الزناد!
#وكالة_انباء_عراقيون