الديمقراطية والاستقرار في مزاج رأي العام العربي بلال بليدي رصد عراقيون
من الربيع العربي إلى اليوم، أنجر عدد وفير من استطلاعات الرأي التي استمزجت رأي عينات من شرائح المجتمع العربي حول الوضع السياسي وتطلعات الأجيال القادمة وأولوياتها في المرحلة القادمة، منها استطلاعات رأي عربية نوعية (المؤشر العربي نموذجا) أخذت تثبت وجودها كمرجع أساسي في الدراسات الاجتماعية وأيضا الدراسات المعنية بتحولات السياسة والقيم، ومنها أجنبية ذائعة الصيت (استطلاعات زوغبي أو بيو على سبيل المثال) رسمت نمطا بحثيا مستقرا في استمزاجاتها، وتحاول في محطات متتالية أن تطرح تقريبا نفس الأسئلة لتدرس مزاج الرأي العام العربي في سياق متحول.
تنطلق هذه الاستطلاعات بدءا بتشخيص مزاج الراي العام العربي اتجاه الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتتجه إلى رصد التوجهات من خلال حصر وترتيب أولويات وتطلعات العينة، وأحيانا تنشغل بعضها بسؤال العلاقة بين الدين والسياسة، وبعضها الآخر بسؤال الاقتراب من نمط معرفي معياري تنشغل به الجهة الراعية للاستطلاع كسؤال الاعتدال أو التسامح أو تحولات الموقف إزاء بعض القضايا الدينية الثابتة.
لدى استقراء نتائج مجموع هذه الاستطلاعات في سياق زمني ممتد ما بين 2010 و2016، تم ملاحظة تحول مفصلي في التوجهات والأولويات، فمن مركزية قضايا الحرية والعدالة والديمقراطية والكرامة، إلى أولوية الاستقرار وتحسن مستوى المعاش.
التفسير ليس صعبا، فرياح الربيع العربي حملت أملا كبيرا في إمكان حصول تغيير جدري في البنى السياسية في العالم العربي، عبر ترتيب تعاقدات مرحلة الانتقال الديمقراطي لاستشراف الموجة الرابعة من الديمقراطية في العالم على حد وصف عالم السياسة الأمريكي لاري دايموند. لكن، بعد تواطؤ جيوب السلطوية مع عدد من مراكز الثقل في المجتمع الدولي لإجهاض مسارات الربيع العربي واستعادة المبادرة، وبعد أن استعمل النسق السلطوي الأسلحة الثلاثة الفتاكة (الأجهزة الأمنية والعسكرية، والمحاكم، والإعلام) لوضع خارطة طريق الخريف العربي، كثر الطلب على الاستقرار أكثر من أي مطلب آخر.
بعض الجهات الراعية لبعض الاستطلاعات (ومنها بشكل خاص القريبة من دولة الإمارات العربية المتحدة)، والتي تحمل غير قليل من الحقد لأولوية الديمقراطية والحرية والكرامة، حاولت أن تستغل لحظة التحولات الطبيعية هذه، لتوجه بعض الأسئلة المقارنة لجلد الربيع العربي ووضعه محط مساءلة، كما ولو كان السبب الرئيس فيما حصل للناس من التضخم وارتفاع الأسعار وتنامي نسب البطالة وضعف الثقة في إمكان حدوث تنمية أو تحقق وفرة في فرص الشغل.
كانت فترة 2013 و2014 المحطة الأساسية التي استثمرت فيها هذا التحول، كما تم فيها تسييس النتائج على مقاس نزعة المحافظة والتقليد، ليتم استغلالها لجهة تبرير الاستبداد وشرعنة النمط الجديد من السلطوية.
والحقيقة أن مؤشرات التحول لم تكن على نسق واحد في مجموع الدول العربية، فهناك عدد لا بأس به من الدول العربية لم تغادر عيناتها قضية الديمقراطية والحرية والكرامة، لكن في الوقت ذاته، بقيت عينها مفتوحة على قضية الاستقرار.
على أن تفسير ذلك هو الآخر لا يخرج عن نسق التحليل السابق، إذ نقطة الاختلاف تكمن في طبيعة النسق السياسي أو طبيعة التحولات الجارية في المشهد السياسي، ففي المغرب الذي يتمتع فيه النظام السياسي بقدر غير قليل من البراغماتية السياسية، بقي مزاج الشعب محكوما بأولوية التغيير لكن دون المساس بالاستقرار، أما في تونس التي تعيش منذ سبع سنوات في ظل التوافق السياسي مع منعرجات في منحناه، بقيت فكرة الاستقرار وتحسن الوضع الاجتماعي مقترنة بقضية الحرية والديمقراطية والكرامة على حدود كبيرة.
اليوم، وبعد مرور أربع سنوات على إجهاض تطلعات الشعوب العربية في تحقيق الموجة الرابعة من الديمقراطية، وبعد أن فشل النمط الجديد من السلطوية في تحقيق تطلعات الشعوب في تحسن مستوى معيشتها أو على الأقل الرجوع بهذه الوضعية إلى ما قبل الثورة، سيكون من الصعب أن يستمر مزاج الرأي العام العربي في رفع أولوية الاستقرار على ما عداها، لأن ورقة الاستقرار وتحسن مستوى المعيشة التي تم استخدامها من قبل النسق السلطوي الجديد استنفذت أغراضها، وبدا واضحا من خلال مؤشرات الاقتصاد والتنمية الاجتماعية أن التراجع مخيف ويوشك أن يصل إلى مستويات من الضحالة غير مسبوقة.
في المغرب مثلا، والذي تعيش وضعا أفضل بكثير من مصر، أظهر حراك الحسيمة أن ثمن التراجع الناعم عن الديمقراطية جد مكلف، فقد انهارت بسرعة جميع نخب الوساطة، وصار الشعب يخاطب الملك بشكل مباشر، مما شكل خطرا على السياسة بالمغرب، إذ أصبحت المؤسسة الملكية في دائرة الاحتكاك المباشر مع الشعب، في الوقت الذي ظلت تمثل دستوريا وعمليا المرجع والحكم عند تنازع المؤسسات.
في تونس، هي الأخرى، انهارت صورة الأحزاب في تمثلات الشعب التونسي بشكل مخيف، ولم ينفع الوفاق السياسي في تحقيق نتائج ملموسة مقنعة تدفع المواطن التونسي إلى استعادة الثقة في المؤسسات والانخراط في مسار الإصلاح.
فإذا كان هذا هو الوضع في المغرب الذي كان الاستقرار فيه مقترنا بالإصلاح، وفي تونس الذي شكل فيه التوافق والاستقرار شرطين لإنجاز وعود الثورة، فإن الحديث عن مصر، التي استعملت فيها لعبة الاستقرار والوعود القومية لاستعادة المبادرة وإعادة بناء النسق السلطوي الجديد، يصير أكثر تعقيدا، فالمواطن المصري اليوم سيكون أمام توجهين متناقضين: توجه يستمر في طلب الاستقرار كيفما كان الثمن ولو بمزيد من تراجع الوضعية الاقتصادية والاجتماعية هذا فضلا عن تراجع الحريات، وتوجه أكثر راديكالية لا يرى أي أفق للاستقرار والإصلاح من غير رحيل النسق السلطوي الجديد.
هل نحن على أبواب ثورة جديدة؟
كل شيء ممكن، لكن هذه المرة، إذا ثارت رياح ثورة جديدة، وهذا أمر غير مستبعد على المدى المتوسط، فلن تكون مجرد تعبير عن حركات احتجاجية اجتماعية عاجزة عن إدارة التفاوض السياسي مع مراكز الثقل في الدولة والمحيط الدولي، وإنما سيتشكل جيل جديد لا يفصل المطلب الاجتماعي عن قضية الحرية والديمقراطية والكرامة، جيل أشبه ما يكون ببديل للحركات السياسية الحالية، التي لم تستطع أن تستوعب تحولات الربيع العربي، بل لم تستطع أن تدفع بها في الاتجاهات الصحيحة، ولم تستطع أن تدير تطلعات النخب في سياق تناقضات إقليمية معقدة.
مستقل الحركات السياسية الحالية يتحدد بمدى إدراك واستيعاب هذه التحولات الجارية، ومدى قدرتها على تكييف أداتها الحزبية لتكون في مستوى إدارة شروط المرحلة القادمة، وتحديد تموقعاتها واصطفافاتها، ونسج ما يمكن من العلاقات مع مكونات المجتمع المدني المفتوح لصناعة جبهة شاملة محصنة قادرة على تحقيق ما لم تحقق نخب الربيع العربي، وقادرة قبل ذلك على تحصين وحدة مكوناتها وتمنيعها من الاختراق.