تفسير أوروبي للمغالاة في التشيع الفارسي / سعد القرش
الإيرانيون قرنوا في لا وعيهم بين انتصار الإسلام والهزيمة القومية، ولكنهم كبحوا شعورهم بالهوان والاستياء؛ لأن الإسلام أصبح العقيدة السائدة.
في مارس 1939، تزوج محمد رضا بهلوي بالأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق. زواج بطعم السياسة ولونها، لم يجد حماسة من أم “العروس” الملكة نازلي التي اعتبرت “العريس”، وإن كان وليا للعهد، متواضع “الأصل”؛ فأبوه كان قائد حرس الإسطبل الملكي. نظرة استعلائية نسيت معها “الملكة الأم” أن ابنتها الأميرة التي ستصير إمبراطورة تنحدر من نسل تاجر دخان ساقته مصادفة إلى حكم مصر عام 1805، في دراما تاريخية لا تكتمل إلا بمعرفة أن عقد الزواج كتب في مسجد “الرفاعي” الذي دفن فيه جثمان رضا بهلوي، بعد وفاته في جنوب أفريقيا عام 1944، كما دفن فيه عام 1980 الشاه الأخير، “اللاجئ” وقد ضاقت عليه الأرض، ولم يجد من يستضيفه إلا أنور السادات.
لا يخلو صعود رضا خان إلى عرش الطاووس من دراما، لو وقعت قبل عصر التدوين لدخلت في نسيج أساطير ألف ليلة وليلة. وكان ليوبولد فايس “محمد أسد” شاهدا على فصلها الأخير، ووثقه في سيرته “الطريق إلى مكة”. في ذلك الوقت، صيف 1924، كان رضا خان “دكتاتور إيران بلا منازع” رئيسا للوزراء، بعد قفزات سريعة نقلته من جندي نظامي حارس أمام السفارة الألمانية في طهران إلى قمة السلطة. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أثبت “الرقيب” الأمي شجاعة في قمع تمرد شيوعي تدعمه روسيا، وتمت ترقيته إلى رتبة “نقيب”، وأتيح له أن يلحق باسمه لقب “خان”. وتوالت ترقياته حتى أصبح قائد لواء.
وفي عام 1921 كان قد تعلم القراءة والكتابة، ودبر انقلاب قصر محكم، وعين وزيرا للحربية، ثم رئيسا للوزراء. ثم ساعده دهاؤه على التخلص الناعم من الملك أحمد القاجاري، ضعيف الشخصية، ونصحه بالقيام برحلة ترفيهية إلى أوروبا، وخلعه. اقتفى رضا خان أثر كمال أتاتورك في بناء دولة ذات وجه غربي، وإن ظل جوهرها الشرقي ساريا.
وفي كتاب “الطريق إلى مكة”، الذي ترجمه رفعت السيد علي، تفسير لجانب من الشخصية الإيرانية التي اختلقت نوعا من التشيع، وتماهت معه، وصار عنوانا يدل عليها، فيقول بشيء من القسوة إن “الإيرانيين شعب سوداوي ومكتئب”، على العكس من الشيعة خارج إيران فمشاعرهم ليست حادة؛ لتحررهم من إرث تاريخي إيراني تسهل رؤيته في العيون الحزينة المعبرة “عن القدر المأساوي لذلك الشعب”، منذ قضى العرب على الامتداد القومي لفارس، والتبس القومي بالديني الذي يحتمي بالبكاء على استشهاد الإمام علي والإمام الحسين، وتبدو تلك الطقوس الجنائزية الحادة “عندهم أهم مما يدعو إليه الإسلام”، ولا تقتصر هذه المشاعر على الشيعة في طهران وحدها.
الانتقال من الثنائية المعقدة بين الزرادشتية وعقيدة وحدة الوجود إلى ديانة توحيدية كان حادا ومؤلما لم يسمح للإيرانيين بوضع وعيهم القومي الدفين في مرتبة تابعة للمفهوم الإسلامي الذي يتجاوز القوميات
ففي مدن وقرى أخرى شاهد فايس نساء ورجالا يتحلقون حول داعية، درويش متجول، يلقي إنشادا نصف مغنى نصف مرتل، عن صراع جرى في القرن السابع الميلادي، بعد موت النبي، “إلا أن أشقياء البشر وأشرارهم اغتصبوا حق أسد الله وجعلوه آخر خليفة للرسول؛ وبعد موت أول مغتصب، تلاه واحد مثله من محبي الشر، وتلاه ثالث بعده. وتحققت إرادة الله فقط بعد موت المغتصب الثالث، وتبوأ أسد الله مقعده الشرعي كقائد للمؤمنين”. فلماذا انصب الغضب الفارسي على عمر بن الخطاب أكثر من غيره؟
يقدم فايس تفسيرا في ضوء ذلك السياق التاريخي. وعلى الرغم من تقلص العقيدة الزرادشتية إلى مجرد مبادئ إصلاحية، فإن بلاد فارس “كانت تمر بمرحلة اختمار جماعي وفكري تشي بإرهاصات ميلاد قومي جديد. وأضاع الغزو العربي الأمل في إعادة الخلق القومي الفارسي”.
وكان الانتقال من الثنائية المعقدة بين الزرادشتية وعقيدة وحدة الوجود إلى ديانة توحيدية “حادا ومؤلما لم يسمح للإيرانيين بوضع وعيهم القـومي الـدفين في مرتبة تابعة للمفهوم الإسلامي الذي يتجاوز القوميات… قرنوا في لا وعيهم بين انتصار الإسلام والهزيمة القومية، وكان إحساسهم بأنهم هزموا إحساسا مؤلما بكل ما يحتويه من غموض”، ولكنهم كبحوا شعورهم بالهوان والاستياء؛ لأن الإسلام أصبح العقيدة السائدة، وقد ألجأهم اللاوعي إلى ما يسميه علماء التحليل النفسي “المغالاة” أو المبالغة العكسية، فاعتبروا الإسلام “الذي دخل بلادهم على أيدي الغزاة العرب دينا خاصا بهم.. وهم أصحابه، قاموا بذلك بلا وعي من خلال تحويل وعي العرب المسلمين العقلي بوحدانية الله الذي لا غموض فيه إلى نقيضه: غموض خيالي وعواطف انقباضية غائمة… مثل اعتناق الإيرانيين لأفكار الشيعة قناة واسعة رحبة ناسبت التكوين النفسي”، بعيدا عن مبدأي: الخلافة الرسولية لأن النبوة لا تورث، والاختيار الحر لقيادة الأمة.
كان لا بد أن يصنف الخلفاء الثلاثة “كمغتصبين للخلافة”، ولكن الغزو وقع في عهد عمر، “ووفر ذلك سببا لتحويل الكره القومي لمن غزا الإمبراطورية الساسانية إلى كره عقائدي وديني، تلك العقيدة التي أصبحت خاصة بإيران: أصبح عمر هو من نزع حق علي وابنيه الحسن والحسين وحرمهم من حقهم الإلهي في خلافة الرسول، وأن عمر بفعله ذاك لم ينصع لإرادة الله، بل عاداه، وأنهم لدعم إرادة الله ومشيئته لا بد من دعم حزب علي… ومن داخل عداء قومي ولدت شريعة دينية مغايرة. كان تعظيم وتمجيد الإيرانيين للعقيدة الشيعية تعبيرا عن احتجاج صامت على غزو العرب لإيران. أدركت الآن لماذا يلعن الإيرانيون عمر بكراهية تفوق في مرارتها تلك اللعنات التي توجه إلى “المغتصبين الآخرين لخلافة علي”. ووفقا للمنطق التاريخي فإن أبا بكر كان أول “مغتصب” لما يراه الإيرانيون حقا لعلي، “إلا أن عمر هو من غزا إيران”.
ربما كان فايس مبالغا في إطلاق الأحكام على الشعب الإيراني، وغير محب لرضا شاه، وأكثر حيادا أمام “مقاتل الطالبيين”، كما كان ناقدا لما انتهت إليه مملكة صديقه عبدالعزيز بن سعود. ولكن دلالة الزواج الذي بدأتُ به هذه السطور أن شيخ الإسلام مصطفى المراغي شيخ الأزهر كان يعي موقعه، ويدرك دور الأزهر في التقريب بين المذاهب، وقال في خطبته “إن هذا زواج إسلامي بين سنة وشيعة، هذه عروة لا ينبغي أن تنفصل”. فهل ابتعدنا كثيرا عن مارس 1939؟
روائي مصري
سعد القرش