ترامب وخامنئي.. شعبويتان لا يلتقيان! / بقلم: محمد قواص

 

 

 

الامتحان الأول لحملة العلاقا العامة التي اطلقها ترامب ضد إيران هو تحويلها من دعاية إلى فعل.

 

لا يمكن التسليم بأن مزاج الرئيس الأميركي دونالد ترامب وذائقته السياسية هما اللذان يقفان وحدهما خلف موقفه المتشدد حيال إيران، ناهيك عن أن الهجمات التي شنها الرجل ضد الاتفاق النووي منذ أن كان مرشحاً للرئاسة لا تملك تأثيرا وازنا على حوافز الذين صوتوا له وحملوه رئيساً للولايات المتحدة. لذا فإن وراء استدارة واشنطن لانتهاج لهجة حادة بديلاً عن مقاربة الاحتواء في عهد الرئيس السابق باراك أوباما تيار عقائدي خَفُتَ بريقه وتوارت إطلالاته خلال السنوات الثماني السابقة.

 

لم يعلل ترامب المرشح حوافزه لمقت الاتفاق النووي إلا بحجج ماركنتيلية جديرة برجل البزنس الشهير. عاب الرئيس الجديد على إدارة سلفه أنها لم تقطف ثمرات اقتصادية من ذلك الاتفاق، وأن الإتفاق فتح أسواق إيران أمام الأوروبيين، مثلاً، دون الأميركيين، وأن طهران عقدت صفقة لشراء طائرات ايرباص الأوروبية ولم تشتر طائرات بوينغ الأميركية. بمعنى آخر لم نسمع من المرشح الجمهوري معارضة لنظام طهران السياسي أو إدانة لسلوكه في مجال حقوق الانسان أو استنكار لتدخله في شؤون دول المنطقة أو ما شابه ذلك، الأمر بالنسبة له أن الاتفاق “سيئ” لأنه لم يكن مربحاً.

 

لكن ترامب الرئيس أعاد تحصين خطابة المتشدد ضد إيران بعد أن وُفِّرت له حجج سياسية تليق بموقف زعيم أكبر دولة في العالم. أعاد ترامب ببساطة عقارب الساعة إلى عهود ما قبل أوباما وأعاد إطلاق خطاب كان يطلق آنذاك ضد “الدولة الراعية للإرهاب” ذات المكانة داخل “محور الشر” والتي يهدد سلوكها الأمن العالمي برمته. فلا شيء جديد في صخب واشنطن ضد طهران سوى أنه جاء ليقطع “الهدنة” الأوبامية التي قد نكتشف يوماً أنها قد جاءت خارج السياق الأميركي التاريخي التقليدي المعهود.

 

تجيد إيران التعامل مع التصعيد الأميركي، بل إن هذا الأمر هو حرفتها على مدار العقود الماضية. تعود الولايات المتحدة إلى موقعها الأصيل في لغة البروباغندا الإيرانية، فهي “الشيطان الأكبر” ومنبع “الاستكبار” الذي تتبرع الجمهورية الإسلامية لمقاومته باسم “المستضعفين”. يتراجع خطاب الرئيس الإيراني حسن روحاني وفريقه لصالح تقدم خطاب مرشد الثورة علي خامنئي وجناح المحافظين في الحكم، ويطلق الحرس الثوري عنان تهديداته، بحيث يعود اللسان الرسمي الإيراني إلى تشدد تقليدي صاحب “الثورة” منذ نشوئها دون أن يشوهه “اعتدال” رفسنجاني وخاتمي في السابق وذلك الذي يوصف به روحاني هذه الأيام.

 

تستبق إيران مفاعيل الأبجديات الترامبية بتذكير من يهمه الأمر بأنها تمتلك في الميدان ما يقيها ضجيج البيت الأبيض. فالتجربة الصاروخية، التي فطنت الإدارة الأميركية لمعانيها، لا تشكل إلا حدثاً رمزياً يعكس سلوكاً إيرانيا ينهل من الميادين (في اليمن والخليج والعراق وسوريا ولبنان) أمرا واقعا يثبت وقائع قد لا تربكها تحذيرات مايكل فلين مستشار الأمن القومي في الإدارة الجديدة.

 

وفيما تعيد واشنطن تشغيل عجلة العقوبات، تعوّل طهران على الحدود القصوى التي قد لا تتجاوزها إدارة ترامب. فقد خبرت إيران عقوبات واشنطن وتعايشت معها، وهي تتوقع أن حالة الولايات المتحدة الراهنة اقتصاديا وعسكريا، حسب ما شرح ترامب المرشح، لا يتيح لها ترف التورط بصدام عسكري مباشر لرفد نزق الرئيس الأميركي بمصداقية واعدة. ثم أن واشنطن التي احتجز دبلوماسيوها في طهران وخطف مواطنوها في بيروت ودمرت سفارتها وثكنات المارينز لها في لبنان لم تقم بأي عمل عسكري ضد إيران فلماذا تقوم به هذه الأيام؟

 

يستدرج ترامب إيران نحو تصعيد مقابل، وهو وإدارته يعرفون كم هو سهل استفزاز طهران وإخراج الأبواق من داخلها خزائنها. وفي اجتماع موقف نائب الرئيس مايك بينس المحذر من “اختبار عزم” الرئيس وموقف وزير الدفاع جيمس ماتيس الذي يعتبر إيران “أكبر دولة راعية للإرهاب”، تضاف مواقف وستلتحق مواقف في عزف جماعي منسّق هدفه إعداد سيناريو دراماتيكي لمشهد قد لا يتعدى حدود المشهد.

 

يحيك الرئيس ترامب وإدارته ومن يقف خلف إدارته حكاية تتوسل نهاية مناسبة. تعرف إيران ذلك جيداً وهي ليست ضد النهايات المناسبة. تتصاحب الحملات العلنية العنيفة المتبادلة مع قنوات اتصال خلفية تجري بين طهران وواشنطن لمواكبة موسم التناتش ومتابعة محاصيله. وستلجأ طهران كعادتها إلى انتهاج سياسة حافة الهاوية والمخاطرة بارتكاب صدفة قد تهدد بالصدام إلى أن يلوح لها مضمون ما تريده واشنطن فعلاً.

 

والحال أن إيران استعجلت في إخراج ورقة التهديد بقصف تل أبيب بالصواريخ إذا ما تعرضت لاعتداء أميركي. فالتهديد بذلك بات لازمة مبتذلة منذ أن وعد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد بإزالة إسرائيل كلها، وليس تل أبيب فقط عن الخارطة. ثم أن قصف تل أبيب يستعيد ذكرى ما وعد به ونفذه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، فكان أن سلمت تل أبيب وأزيل نظام صدام حسين. لكن ذلك الاستعجال سببه أيضا رغبة طهران في المساهمة في ورشة ترامب لتصعيد الأمر بين البلدين، وبالتالي استعجال نهاية الحكاية التي ترويها واشنطن. بمعنى آخر فإن إيران توفر لترامب ما يتمناه من لاعبين داخل المشهد الذي اختاره لافتتاح عرضه في الإطلالة على العالم.

 

ما يجري حتى الآن من سجال بين الولايات المتحدة وإيران لا يعدو كونه تواطؤاً بين شعبويتين رائجتين في واشنطن وطهران. ولئن تتولى المنابر السياسية والإعلامية والاجتماعية والمؤسساتية المعارضة تجويف شعبوية الرئيس الجديد ومحاصرة شططها، فإن للشعبوية الإيرانية المتأسسة على بعد مذهبي عقائدي ما يجعلها أكثر فجاجة وأصلب عودا.

 

لكن ما ترومه واشنطن بالنهاية هو إعادة تنظيم العلاقة مع طهران وفق قواعد جديدة. الأمر قد يستدعي العمل على ضبط الحركة الإيرانية الفائضة وسحبها قدر الإمكان من دوائر النفوذ في الخارج ودفعها إلى ما وراء الحدود. وما تعد به الملامح الأولى لترامب في هذا الإطار لا يختلف في المضمون، وليس في الشكل، عن ذلك الذي عملت عليه إدارة أوباما سابقا. فقد وقّعت واشنطن الاتفاق مع طهران واعدة بتطبيع مقبل لم يحصل، فيما عملت دوائرها على مكافحة امتدادات إيران غير المفيدة والتعايش مع المفيد منها. وعليه فرضت الولايات المتحدة عقوبات مشددة ضد حزب الله وشبكة تمويله، وتعايشت مع الميليشيات العراقية التابعة لإيران المشاركة في الحرب ضد داعش.

 

ستعمل واشنطن على إضعاف النفوذ الإيراني في اليمن وسوريا وصولا إلى العراق. يكشف تواصل الرئيس الأميركي مع الرياض وأبوظبي عن المعالم الأولى لذلك، كما توحي أفكاره حول إقامة مناطق آمنة في سوريا بمباشرة سياق طارد للنفوذ الإيراني في هذا البلد، فيما لا ينسى العراقيون طموحاته المعلنه في النهل من نفط بلادهم لتبيان صعوبة التعايش بين أجندتي إيران والولايات المتحدة في العراق.

 

وللمراقب أن يلاحظ بسهولة أن الاقتراب المتبادل الحذر الذي يمارسه الرئيسين الأميركي والروسي سيأتي حكماً على حساب فائض القوة الذي نشرته إيران في المنطقة. وللمراقب أن يلاحظ أيضا أن إيران مضطرة لإبداء كثير من المرونة للوقوف مع الاستراتيجيات الروسية في سوريا والمنطقة اتقاء من العدائية التي تمارسها واشنطن ضدها.

 

تتأمل موسكو بغبطة ضغوط واشنطن ضد إيران وتلك الممارسة (من خلال تسليح أكراد سوريا) ضد تركيا. ورغم اختلاف الحالتين وأساليب مقاربتهما، إلا أن الخلاصة تقود إلى استنتاج أن العمل جار لإخصاء الطموحات الإقليمية لإيران وتركيا وجعلها تحت سقف ما ترسمه الدولتين العظميين اللتين تعدان العالم بودٍّ وتآلف وتعاون حميم.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *