المنطقة الخضراء الأميركية وترامب  إبراهيم الزبيدي  

 

لأول مرة، منذ عشرات السنين، يخرج واحد مغامر، مقامر، من خارج نظام المحاصصة المتين العصي على الاختراق، فينتزع القيادة من أحزاب ‘المنطقة الخضراء’ الأميركية.

 

مهما قيل عن شخصية الرئيس الأميركي الجديد، وبرغم كل المآخذ التي يمكن أن تُسجل على النظام الانتخابي الأميركي الذي أسقط هيلاري كلنتون وأنجح دونالد ترامب، فهو قد أصبح رئيسا لأقوى دولة في العالم، وامتلك مفاتيح السياسة والمال والسلاح، لا في أميركا وحدها، بل في الكرة الأرضية كلها، ولن تتمكن قوة، لا على الأرض ولا في السماء، أن تُخرجه من البيت الأبيض وتعيد الزمن إلى وراء.

 

وقبل الدخول في موضوع هذه المقالة الأميركية لا بد من رسم علامة استفهام كبرى حول تورط حكومات وجماعات وأحزاب وفضائيات عربية في ترويج ما تنشره السي إن إن وصحف أميركية عن ترامب، وهي تخوض معه معارك تصفية حسابات داخلية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، ناهيك عن أن سلوكا عربيا من هذا النوع لا يتفق والحنكة السياسية التي تفترض النظر إلى الغد البعيد، والتعامل مع الأمر الواقع، وعدم اكتساب عداوة، أو تعميق عداوة، مع رئيس جديد لدولة كبرى لا فكاك لنا من التعامل معها في أكثر من وجه وأكثر من سياق.

 

شيء آخر. فسواء كان ترامب مؤمنا حقا بكل ما قاله أو ببعضه، أو أنه كان يتاجر بالشعارات لكسب قوى شعبوية تناصره ضد معارضيه، أو تؤهله لفترة رئاسية ثانية، فإن خطابه الأخير ليس سوى ترجمة صادقة أو انتهازية لمطالب حقيقية وأحلام مشروعة للملايين من الأميركيين الذين أساءت النُخب الحاكمة في واشنطن التصرف بأموالهم، وأفقرت الكثيرين منهم. ولا يحس بآلامهم أي من عباد الله الآخرين.

 

وبالتالي فإن ترامب، بما وعدهم به، إنما يحاول استثمار معاناتهم، أو إنصافهم، وهو، بالتالي، يفعل بذلك ما فعله كثيرون، قبله وبعده، من قادة الدول الأخرى ويفعلون. ولو أمعنا التمحيص في النقاط المهمة التي أوردها في خطابه لوجدنا أنه أحسن تشخيص ما وصلت إليه أميركا، دون زيادة ولا نقصان:

 

1- “إن الولايات المتحدة أنفقت المليارات على حماية دول العالم، وأهملت أوضاع مواطنيها في الداخل، ولكن الوضع الآن سيتغير وستكون الأولوية للداخل الأميركي، أميركا أولا”.

 

2- “من الآن فصاعدا سنشتري كل شيء أميركي”.

 

3 – “سنعيد اكتشاف ولائنا لبعضنا”.

 

4- أوباما، (رغم أنه لم يصرح باسمه) أوصل الولايات المتحدة إلى أسوأ حالاتها، في الداخل والخارج، معا.

 

5- “نعاني من قلة الوظائف، ومن توقف عدد من المصانع عن العمل، ومن جرائم المخدرات، وكل هذا سوف يتوقف”.

 

6 – وعن السياسيين المتواجدين حوله على منصة التنصيب قال “إنهم يتحدثون ولا يعملون”، و“لن نقبل مجددا بسياسيين يتحدثون ولا يفعلون، ويشتكون باستمرار ولا يحلون أي شيء، إن وقت (الكلام الفارغ) قد انتهى، وجاءت ساعة العمل”.

 

7- “لوقت طويل كانت هناك مجموعة صغيرة تحصد الفائدة وتترك الناس للضياع”.

 

8- “سنقضي على العصابات، وعلى التجارة غير المشروعة”.

 

والذي يعيش في أميركا، مثلنا، يدرك أن ما هو قائم في واشنطن منذ عشرات السنين، هو نظام محاصصة في أسوأ حالاته، قبلية وحزبية ومناطقية، سياسية واقتصادية وثقافية، ولكنه مدهون من الخارج بأصباغ الحرية والديمقراطية. فقادتُه المزمنون لا يذكرون مواطنيهم إلا في أيام الانتخابات، ويُخرجونهم من عقولهم وقلوبهم وجيوبهم بعد مواسم الانتخابات، ثم ينشغل كل منهم بمصالحه، ومنافع الدائرة الضيقة المحيطة به وبأسرته، وشركات إخوته وأصهاره ومؤسساتهم. وعليه فإن من يعيش في أميركا مثلنا يفهم سر الغضب المدمر الذي اندلع يوم تنصيب ترامب، وسر القائمين به والمحرضين عليه.

 

فلأول مرة، من عشرات السنين، يخرج واحد مغامر، مقامر، من خارج نظام المحاصصة المتين العصي على الاختراق، فينتزع القيادة من أحزاب (المنطقة الخضراء) الأميركية، بالرغم من كل ما حاكه ضده، من مؤامرات ودسائس وتلفيقات، دهاقنةُ الحَوْل والطَوْل في واشنطن لوقف اندفاعه، ومنع فوزه بأي وسيلة.

 

فهم يعلمون بأن دخوله البيت الأبيض لا بد أن يُحدث شروخا خطيرة في جدران حصونهم، وأن يُبطل مفعول سحرهم، ويفسد عليهم تجارتهم التي ظلوا يتوارثونها من عشرات السنين.

 

والذي حدث في واشنطن يوم العشرين من يناير من حرق ودهم وتكسير وتهديم أمر عادي ومتوقع وليس فيه جديد. فلكل واحد من جهابذة المتحاصصين المتقاسمين للسلطة والمال والنفوذ في واشنطن قبائل وميليشيات وخلايا طفيلية عديدة نائمة تَخرج وقت الحاجة. وقد أذنوا لها بأن تخرج يومَ التنصيب، لا لإسقاط ترامب، فهذا ما لا يستطيع فعله أحد، بل لإرهابه أو لحمله على الأقل، على خفض حرارة عداوته لهم، وتعاليه عليهم، وإصراره على تحريض المواطن الأميركي “الكادح” و“المحروم” و“المخدوع” و“المُستغَل” على بُغضهم واحتقارهم، ليس في أربع سنوات حكمه وحدها بل لأجيال أخرى في عشرات قادمة من السنين.

 

ولو كان ترامب عراقيا، واقتحم أسوار المنطقة الخضراء، وسحب البساط من تحت أقدام عمار الحكيم ونوري المالكي وفؤاد معصوم وحيدر العبادي وهادي العامري وأياد علاوي وأسامة النجيفي وصالح المطلق، مثلا، أكانوا سيكتفون بحرق سيارة وتكسير زجاج مطعم وقلع عمود كهرباء في بغداد، فقط، كما فعلت الجماعات “الملثمة” في واشنطن، يغتالونه قبل وصوله إلى منصة حلف اليمين، بتهمة “البعثية” و“الوهابية” و“الداعشية” والعمالة والإمبريالية والصهيونية، وينسى المتحاصصون خلافاتهم، شيعة وسنة، عربا وأكرادا، ويتحدون عليه، ويهـدمون على رأسه بيته وبيوت آبائه الأولين والآخرين؟ فأبطال المحاصصة العراقية عندنا لا يمزحون أبدا مع أي ترامب عراقي محتمل، ولا يرحمون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *