كل الأنظمة بحاجة إلى «داعش» هيفاء زنكنة

 

 

 

بعيدا عن آلية ديمقراطية القنابل ومفخخات الإرهاب، وما تسببه من خراب انساني وعمراني، تحتاج الدول، العظمى وغير العظمى، غالبا، تصنيع عدو ما يُحصنها ضد أي تململ داخلي، ويُحول الأنظار عن سياستها الخارجية، خاصة إذا كانت عدوانية توسعية ولا تقيم وزنا للقوانين الدولية.

خلق العدو، إذن، سواء كان حقيقيا أو افتراضيا، ضرورة استراتيجية، بحجة الدفاع عن الأمن القومي. قد يكون العدو دولة، كما كان الاتحاد السوفييتي أيام الحرب الباردة، حين جعلت أمريكا من الشيوعية عصا تردع بها كل من يخالف سياستها سواء في داخل أمريكا، كما في حملة الإرهاب والترويع المكارثية، أو خارج أمريكا عن طريق شن الحروب العدوانية كما في الحرب ضد فيتنام أو عن طريق تشجيع التنظيمات والأحزاب الدينية. ومن يراجع تاريخ الغرب الامبريالي سيجد انه كان قادرا، دوما، على تصنيع «العدو» بمساعدة حكام محليين يقتاتون على فتات المُستعمِر، من ذات البلدان المُستَهدَفة. قد يكون الفتات بشكل دعم دولي أو صفقات أسلحة أو تحالفات هدفها النهائي إبقاء الشعوب مُخدرة بأوهام المحافظة على الوطن ومحاربة «العدو» الذي تختلف مسمياته وتعليبه بين الحين والآخر، حسب السياسة التوسعية، ونوعية الهيمنة المتوخاة وحجم صفقات السلاح.

يلعب الحكام المحليون، أفرادا أو قادة أحزاب، أدوارا أساسية في إخضاع الشعوب للنفوذ الأجنبي، بحكم سيطرتهم على آلات القمع اليومي المباشرة كأجهزة المخابرات إلى غير المباشرة كالبطالة والفساد وما يؤديان إليه من تجويع، وقراءة سريعة لمنجزات الحكام العرب تعطينا أمثلة لا تضاهى في هذه المجالات.

تتصدر أمريكا، تاريخيا، قائمة الدول المُصَنعة لـ»العدو»، مستخدمة كل الأساليب الممكنة، لتغليفه إعلاميا وفكريا، وان لم تعد، في الفترة الأخيرة، وبعد نجاحها الترويجي الكبير لسياسة «الحرب على الإرهاب»، بحاجة إلى الأساليب السرية للتغطية على حمايتها للأنظمة المحلية الاستبدادية أو تدخلها العسكري، في البلدان التي يبدو من المضحك الاعتقاد، كما يروج دعائيا، بأنها تشكل خطرا على أمريكا أو العالم.

أحد وجوه التدخل هو نشاط فرق العمليات الخاصة في جميع أرجاء العالم والمتزايد بشكل كبير في أفريقيا، الذي يفسره اللواء دونالد بولدويك، قائد العمليات الخاصة الأمريكية في أفريقيا: «لسنا في حالة حرب في أفريقيا، إلا إن شركاءنا الأفارقة في حالة حرب بالتأكيد». ولا يقتصر التدخل الأمريكي على عمليات الفرق الخاصة وبضمنها الاغتيال وخطف الرهائن، بل يمتد تحت غطاء «التدخل الإنساني» و «محاربة الإرهاب» إلى القصف الجوي بأنواعه. فقد بلغ عدد القنابل التي القتها أمريكا على الصومال واليمن وليبيا وسوريا والعراق ما يزيد على 26 ألف قنبلة، كان معظمها من نصيب سوريا والعراق، حسب بيانات مجلس العلاقات الخارجية لوزارة الدفاع الأمريكية، لتحتل أمريكا بذلك المركز الأول في الحرب الجوية المعروفة بأنها الأسلم للقوات الأمريكية والأكثر خطورة على المدنيين سواء من ناحية القتل المباشر أو الإعاقة أو الضرر النفسي، بعيد المدى، خاصة على الأطفال.

هذا ما يعيشه عالمنا، في ظل «الحرب على الإرهاب»، المتناسلة بسرعة الأرانب، عسكريا وإعلاميا، على الرغم من أمل البعض بأنها ما كانت ستمرر على الناس بسهولة، لكونها مستنسخة تاريخيا، ومع شيوع أسباب اختلاقها. وجاءت ولادة تنظيم القاعدة ومن ثم «الدولة الإسلامية»، على أرضية خلقها المحتل وعملاؤه المحليون من ظلم وقمع واعتقالات لعشرات الآلاف من الأبرياء، فالعنف قلما يلد غير العنف والظلم الذي لا يأمل ضحاياه في تحقيق العدالة، قانونيا، يجدون في الانتقام حلا وحيدا.

وإذا كانت « داعش» مستخدمة، من قبل الدول، عالميا وإقليميا، بالإضافة إلى الحكومات الفاشلة محليا، مثل أيقونات الأعياد الموسمية، فان استخدامها، كما تم الكشف عنه، مؤخرا، لم يعد مقتصرا على الدول المتهمة بشكل رئيسي (أمريكا وإيران) بل وتعداها إلى القوات التي ترى إن محاربة «داعش» همها الأساسي، كما هي قوات البيشمركة الكردية والميليشيات التي جعلت من محاربة « داعش» سببا لوجودها مثل ميليشيا الحشد الشعبي، الذي تم الكشف عن تعاون عدد منهم مع «داعش»، كما تم إلقاء القبض على عدد من ضباط ومقاتلي البيشمركة « على إثر ممارستهم أعمالا تجارية مع تنظيم «داعش الإرهابي»، حسب وزارة البيشمركة في حكومة إقليم كردستان.

وها هي قيادات الدول العظمى، التي عملت بجد على تخريب بلداننا، سوية مع أنظمة الحكم الفاسدة، تهيئ الأرضية لاختلاق عدو جديد، مكررة، إعلاميا، بأن القضاء على « داعش»، لا يعني القضاء على الإرهاب. مما يعني المزيد من سفك الدماء. فكيف نتعامل مع واقع استدامة الهيمنة والموت ؟

اذا كان من السذاجة التفكير بأن أمريكا قادرة على خلق كل شيء وانهاء ما تخلقه متى شاءت مما يجرد الحكام والساسة من المسؤولية، والأفراد وحتى الشعوب من القدرة على التغيير، فان انتشار التنظيمات السرية والإرهابية والميليشيات أثبت ان القوى العظمى لا تحتكر صناعة العدو الاستراتيجي كدولة او المرحلي كتنظيم بل ان التنظيمات، نفسها، قادرة على استغلال صناعة العدو، مما يجعل الأخطار المحيطة بالبلدان وحركات المقاومة أكثر تشابكا وغموضا. كما أن تصنيف جميع اشكال الاحتجاج ضد الظلم والاستبداد، وحركات التحرر الوطنية إرهابا مثلما جرى في حقبة محاربة الشيوعية مع ثورات العالم الثالث، لا ينهي هذه الحركات المشروعة وإن كان يصعب مهماتها.

وهاهي قيادات الدول العظمى، التي عملت بجد على تخريب بلداننا، سوية مع انظمة الحكم الفاسدة، تهيأ الأرضية لتصنيع عدو جديد، عبر تصريحاتها المكررة، عالميا ومحليا، بأن القضاء على تنظيم «داعش الإرهابي»، لا يعني القضاء على الإرهاب. مما يعني المزيد من سفك الدماء. فكيف نتعامل، كشعوب، مع واقع استدامة الهيمنة والموت ؟

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *