عقيل عباس يكتب| “الهاوية الجديدة” والقاموس السّياسي العقيم في العراق

عراقيون/ مقالات رأي

صار مألوفاً القول إن العراق على حافة هاوية تسبق الانهيار، وإنه إذا لا يعلو صوت العقلاء فالنهاية وشيكة وسواها من عبارات التحذير واستنفار العقل والوطنية لإنقاذ البلد

تكررت هذه العبارات، بالتحذيرات والآمال المرتبطة بها، عشرات المرات على مدى الـ19 عاماً الأخيرة. ما عادت مثل هذه العبارات تضيف قلقاً جديداً وضاغطاً، بسبب تطبيع الناس على السوء العام والمنتظم لهذا النظام السياسي.
فسوء النظام السياسي وفشله الفادح في تأدية التزاماته نحو المجتمع وطبيعته الزبائنية والإقطاعية القائمة على تسخير الدولة ومواردها لخدمة مصالح الأحزاب لا مصالح المجتمع، ورفضه لإصلاح نفسه وتعايشه المستمر مع انتقاله من أزمة إلى أخرى، والصراع الدائم لأطرافه المختلفة مع بعضها الآخر، هذه كلها، صارت جزءاً معتاداً من قصته وسبباً أساسياً لانفصال الناس عن هذا النظام السياسي ورفضهم له، بل حتى ترحيبهم بالخلاص منه.

وفي كل مرة تقريباً، ومع نشوب الأزمات المألوفة والكثيرة لمثل هذا النظام المولد بطبيعته للأزمات والمشكلات، تتصاعد الأصوات وتتكرر الدعاوى المألوفة والعقيمة بخصوص أهمية التهدئة، وضرورة الحوار والاحتكام إلى العقل واحترام الدستور وتغليب المصلحة الوطنية وغيرها من الكلام العمومي والمطاط والممل في قاموس اللغة السياسية العراقية ما بعد 2003.
تشكل هذا القاموس تدريجياً مع تشكل هذا النظام، وازدهرت مفرداته واتسعت بتنوع أزمات النظام واتساعها، كما في مفرداته الأخرى ذات الطابع السياسي المباشر كالمكوّنات والعملية السياسية والاستحقاق الانتخابي، والدم العراقي خط أحمر والفتنة، والمسؤولية الجماعية عن الفشل، والمربع الأول وتعابير الأخوّة المزيفة (الإخوة الكرد والإخوة الشيعة والإخوة السنّة الخ الخ).
لكن لم يكن هذا القاموس مقنعاً أو مجدياً، ولا لمفرداته قيمة فعلية، فاللغة التي أنتجها هذا النظام، وطريقة التفكير المتشكلة منها، عقيمة كما هو النظام نفسه، دون تأثير حقيقي، إلا في السنوات الأولى من حياة هذا النظام عندما كان المجتمع واقعاً تحت التخدير المكوناتي الذي ساهم في ترسيخه هذا القاموس.

لا يساعد هذا القاموس السياسي في فهم طبيعة هذا النظام، بل بالعكس يساهم في التغطية على عيوبه وفي تزييف وعي الناس بتركيبته وطريقة عمله الزبائنية، المناقضة للمصلحة العامة وللديموقراطية التي يدّعيها النظام.
لم يشرح لنا هذا القاموس ولا مستخدموه من ساسة هذا النظام للجمهور لماذا لم تستطع دعاوى التهدئة والتفاوض والاحتكام للعقل بكل الذي أنتجته من حوارات وتفاهمات وتسويات إيقافَ التردي المستمر للأوضاع منذ 19 عاماً.
وإذا فشل هذا القاموس في الشرح والفهم، فلماذا يُعاد استخدامه في الأزمات التالية؟ ساهمت في ترسيخ قاموس التزييف والتنصل هذا نخب ثقافية كسولة أو متواطئة ترفض أن تفكك وتسائل، بل بقيت في الغالب تعيد إنتاج هذا القاموس إما لأسباب انتهازية أو أخرى تتعلق بافتقادها للرصانة الفكرية اللازمة والالتزام الأخلاقي المرتبط بمعنى كون المرء مثقفاً أو صانعاً للرأي.

في الحقيقة، واحدة من وظائف هذا القاموس وتوظيف الساسة له هو ترسيخ النسيان بين الجمهور وإهمال الذاكرة، ذاكرة الأفعال والخطابات السياسية لأساطين هذا النظام على مدى 19 عاماً، واعتبار اللحظة الحالية، كل لحظة في أوانها، بخطابها وأفعالها هي الأساسية والأصيلة والتي ينبغي تقييم الفاعل السياسي الذي أنتجها على أساسها فقط، من دون العودة وربطها بماضي الأفعال والخطابات للفاعل السياسي نفسه، إلا في سياقات تزوير أو إعادة تشكيل هذا الماضي أو تزويقه لجعله متسقاً مع اللحظة الحاضرة.
فمثلاً، يبدو لافتاً أن الإطار التنسيقي، بقواه المختلفة، يرفض في لحظة صراعه الحالية والطويلة مع التيار الصدري أن يتوقف عند سجل أفعاله الماضية في الحكم وخطاباته المختلفة في أثنائها وعلاقتها بالفشل المتراكم الذي وصل اليه البلد، في ظل الحكومات المتتابعة التي قادها زعماء الإطار التنسيقي، الذي يتحدث زعماؤه وممثلوه وكأن لا ماضي وراءهم في الحكم والسلطة يُفند مقولاتهم الحالية بخصوص المصلحة الوطنية والحرص على تنفيذ القانون وسواها من الإعلانات النبيلة التي لا تدعمها الأفعال السابقة، ولا حتى الحالية.

على الجانب الآخر تبدو علاقة التيار الصدري بالقاموس السياسي السائد ودور سجل التيار في السلطة مختلفاً عن سجل الإطار، وإن كان الاختلاف نسبياً وليس جذرياً، لكن يبقى هذا الاختلاف يمثل فارقاً مهماً ساعد التيار في الاحتفاظ ببعض أوراق المصداقية الشعبية. يشتغل سجل التيار بهذا الصدد على مستويين، أحدهما فيه مقدار معقول من الجدية والصرامة عند تعلّق الأمر بالطبقة السياسية، فيما تهيمن على الآخر روحَ التساهل والمجاملة وتجنب المسؤولية عند تعلق الأمر بمعارضي هذا النظام السياسي كالتشرينيين ممن يُفترض أن يكونوا من حلفاء الصدريين.

بخصوص الطبقة السياسية، بدأ التيار الصدري منذ 2012، عند تحالفه مع الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني و”القائمة العراقية” بزعامة أياد علاوي، لإطاحة نوري المالكي برلمانياً متهماً الأخير بالدكتاتورية والطائفية والإدارة السيئة، بتطوير خطاب سياسي مختلف نسبياً.
لو نجحت محاولة الإطاحة تلك التي أفشلتها إيران وقتها، ربما كان تاريخ العراق أخذ مساراً مختلفاً إيجابياً.
منذ ذلك التاريخ بدأ التيار الصدري يطور خطاباً تصاعدياً في نقده للنظام السياسي مع الإصرار على البقاء في إطار النظام نفسه من خلال دعاوى إصلاحية مختلفة (كما في تبنيه حكومة التكنوقراط ومطالبته بتقنين الحشد الشعبي ومأسسته ومعارضته للفصائل المسلحة وتفكيك المحاصصة والتوافقية) لم تقد إلى نتائج إيجابية ملموسة.

توقف جزء من الخطاب الصدري بهذا الصدد عند الذاكرة عبر إشارته الى فشل هذه التجارب، واعتبارها جزءاً من وصوله إلى لحظته الحالية بخصوص حكومة الأغلبية في إطار انتخابات تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وإصراره على المضي في المواجهة إلى شوطها الأخير، هذه المرة على خلاف السابق، ضد خصومه في داخل النظام السياسي الذين تجمع معظمهم في الإطار التنسيقي.
مَثَّل الانسحاب من البرلمان بعد الفوز في الانتخابات والذهاب إلى الشارع لفرض الأجندة الإصلاحية للتيار الصدري، أي الإصرار على إصلاح النظام السياسي من داخله عبر الأساليب الشعبية والاحتجاجية، تطوراً منطقياً للوعي السياسي للتيار الصدري بخصوص هويته ودوره المحتمل في البلد. عبر كل هذا، كان التيار يستخدم خطاباً متناسباً مع هذه التطورات عبر مزيج من القاموس الشيعي والوطني يعكس الهوية السياسية المختلطة للتيار الصدري نفسه.

لكن على الجانب الآخر المرتبط بخطاب التيار بخصوص معارضي النظام السياسي ممن يُفترض أن يكونوا حلفاء للتيار، كان الأمر مختلفاً. تميز هذا الخطاب برفض المسؤولية عن تحمل الأفعال والتأكيد على التفوق الأخلاقي للتيار في هذه التحالفات وتعرضه لخذلان هؤلاء الحلفاء، كما في شرحه غير المقنع لنهاية تحالف “سائرون” الذي ضمه مع الحزب الشيوعي وقوى مدنية في انتخابات 2018 وبعدها. لكن اللحظة الفارقة في هذا الخطاب هي انتقائيته الواضحة وتجاهل حقائق معروفة ورفض تحمل المسؤولية عن أفعال خاطئة في سياق علاقته الملتبسة مع التشرينيين.

يركز خطاب التيار على لحظة مهمة وحقيقية في علاقته بالاحتجاج التشريني، وهي حمايته للتشرينيين، عبر مجاميع القبعات الزرق، من بطش السلطات في أثناء معظم أشهر الاحتجاج الذي شارك فيه الصدريون أيضاً بقوة. لكن الخطاب الصدري يتجاهل أيضاً الحقائق المؤلمة في هذه العلاقة مع الاحتجاج التشريني التي تسببت بها أفعاله، كتحريضه التالي ضدهم لتفكيك الاحتجاج بعد انسحاب الصدريين منه، وصولاً إلى رفع السلاح ضدهم وإيقاع ضحايا فيهم قتلاً وجرحاً.

تبرز آثار الصدع الحقيقي الناتج من الاستهداف الصدري للتشرينيين في هذه الأيام، إذ يرفض كثير منهم المساهمة في الاحتجاج الصدري، رغم أنهم يتفقون مع أهدافه التي سبق لهم أن رفعوها بأنفسهم.
كان بمقدور الخطاب الصدري، لو أقر بهذه الحقائق، مترافقاً بخطوات صدرية لترضية التشرينيين وامتصاص غضبهم المشروع أن يعالج هذا الصدع ويحصل على شريك احتجاجي مهم يتشاطر معه مهمة الإصلاح الداخلي لهذا النظام السياسي.

ليست المشكلة في إجراء الحوارات أو الاحتكام إلى العقل أو إعلاء المصلحة الوطنية، وسواها من مفردات القاموس السياسي لنظام ما بعد 2003، فهذه كلها تشتغل على نحو مؤثر ومفيد في بلدان أخرى كثيرة تؤمن أنظمتها السياسية بمعاني هذه المصطلحات وتطبقها فعلاً.
لكن لسوء الحظ، لا ينطبق هذا على العراق حيث اعتاد النظام السياسي على خداع المجتمع وتزييف فهمه لنفسه ومشكلاته. يجد هذا الزيف طريقه للنهاية على نحو سريع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *