ريان توفيق يكتب| نحو وعي جديد لزمن جديد .. الحلقة الخامسة ( العقل الجزمي )

عراقيون/ مقالات رأي

كثيرة تلكم الحوارات التي تدور في المنتديات الثقافية أو مواقع التواصل الاجتماعي .. وهي من حيث المبدأ ظاهرة حضارية، محركة للسكون المعرفي على المستويات المختلفة .. لكن في أعم الأحيان وأغلبها مازالت النزعة الأحادية التسلطية التي تستبطن احتكار الحقيقة هي السائدة في هذه الحوارات.

وتتجلى المشكلة الكبيرة في ظاهرة الجزمية التي أصبحت سائدة في حواراتنا وندواتنا، فلا نجد من يقول: “الذي يترجح لدي” أو “الذي يظهر عندي من خلال البحث هو كذا” .. أو “ما زالت المسألة ملتبسة عندي وغير واضحة” أما مقولة “لا أدري أو هذا الموضوع خارج عن تخصصي” فلا يوجد لها ذكر إلا في النادر.

ويلاحظ أنه كلما انخفض المنسوب المعرفي الجمعي، وضعف الاطلاع على عوامل نهضة الأمم، وكلما احتمى الحاضر بالماضي زادت الجزمية .. وكلما ارتفع المنسوب الثقافي والعلمي في قطاعات المجتمع، وكلما أدرك الإنسان أن طاقاته العقلية، وإنجازاته المعرفية محدودة، وقابلة للتعديل أو الإضافة أو النقض، كلما قلت الجزمية أو تلاشت.

إن المرحلة الراهنة تتطلب أن يتحول العقل الجمعي من العقلية الجزمية الأحادية إلى العقلية الحوارية التي تحاور وتناقش مستندة إلى القراءة المتأنية والمعمقة، والثقافة الواسعة، والنظر إلى أعماق الأزمات لا إلى ظواهرها .. وتفسح المجال لاحتمالية الخطأ في أصل الفكرة أو تأصيلها أو البناء عليها.. فليس المهم أن نتكلم، لكن المهم هو: ما الكلام الذي سنتكلمه؟ وهل هو كلام نابع عن خبرة علمية أو حياتية أم هو كلام مرتجل؟

لا بد أن نتعلم أن نعرض آراءنا على أنها رأي من الآراء، واجتهاد من الاجتهادات .. لا أنها الرأي الذي يستبطن الحقيقة المطلقة، والرأي الذي لا تجوز مخالفته، وأن نفكر مليا قبل البوح برأينا، فالإنسان السوبرمان الذي يعرف كل شيء، ويجزم بكل شيء، ويحاور بكل شيء، لا وجود له إلا في الوهم.

كما أنه لابد أن يعي العقل الجمعي طبيعة مؤهلاته المعرفية، ولو كان مختصا في بعض الحقول المعرفية.. فثمة من لم يضف إلى خزينة ذهنه العلمية شيئا يذكر منذ أن حصل على هذه الدرجة العلمية أو تلك، مع أن المعارف تتوسع وتتمدد أفقيا ورأسيا.. والعالم من حولنا يوسع مداركه، ويبحث ويتحاور، وينتج النظريات، ويطور بناه المعرفية منهجيا ولوجستيا، وتنفتح التخصصات بعضها على البعض الآخر، من أجل تكامل الرؤى وترسيخها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *