سد الموصل.. مطلوب حيا أو ميتا حامد الكيلاني

 

رسائل سد الموصل وإن كانت حقيقية ومبنية على حسابات مختبرية، إلا أنها في جانب آخر سلاح رعب بيد الإرهاب الداعشي، حيث لا يتورع التنظيم عن تجربته بعد تجارب لإنتاج ذخائر كيميائية.

 

الموصل في دوامة كحال العراق عموما منذ الاحتلال الأميركي في أبريل 2003. المدينة عانت في البدء من تصرفات حمقاء لبعض منتسبي القوات الأمنية بحق مواطنيها، وتعرضت لسلسلة من الهجمات الإرهابية الإجرامية تم تدريب عناصرها في معسكرات النظام السوري، وصارت المدينة وسيطا لرسائل ذهنية متبادلة دفع ثمنها أهل الموصل من دمهم واستقرارهم، وصولا إلى مرحلة احتلال عصابات داعش لها بعد انسحاب عصابات نوري المالكي منها تاركة خزين الأسلحة في أكبر صفقة تسويق للإرهاب لم تحدث في التاريخ على الإطلاق، ومعها مصير مجهول لسكانها.

 

أميركا رغم التصريحات وردات فعلها وتعجّبها، فإنها كانت في المحصلة، إما ممثلة رديئة لا تجيد دورها وإما أنها انتابتها نوبة إحساس بالخزي والفشل لأن من نصّبتهم حكاما لبلاد وادي الرافدين ليسوا إلا مجموعة ملالي وإن كان بعضهم من خريجي الجامعات الأميركية أو البريطانية، فهم من تجربتهم الطويلة ينقادون في نهاية مطافهم إلى مرجع طائفي، يقرر نيابة عن تحصيلهم العلمي ومعارفهم السياسية والاجتماعية.

 

إذا أميركا لا تدري حجم الكارثة التي تورطت فيها باختيار هذه النماذج لقيادة عمليتها السياسية، فذلك يعني سذاجة مطلقة لا تناسب دولة عظمى؛ لكن إذا أميركا، ويبدو التحليل أقرب إلى الواقع، سلمت العراق بكامل وعيها وإدراكها لما ستؤول إليه الأمور على أيدي عملائها وزبانية الفقه الإيراني الطائفي في منطقة الشرق الأوسط، فإنها صنعت مثالا يحتذى به في وسائل الاستعمار لتدمير الأوطان ومن دون أن توجه لها الاتهامات والانتقادات لتحميلها المسؤولية المباشرة لما يجري من جرائم إبادة وإرهاب وتراجع مهين في إدارة الحكم والموارد والخدمات والأمن. هل هناك أفضل من الأحزاب والميليشيات الطائفية لقيادة هذه المهمة التي قَدَّم لها وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر في تهديده لإعادة العراق إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية؟

 

ماذا يعني العراق لحكامه بعد الاحتلال الأميركي؟ والعراق ماذا يعني لحكامه بعد الاحتلال الإيراني؟ مصادر للطاقة ومصادر للطائفية، هكذا تتسق المشاريع، تفترق في الإعلام والسياسة العامة، وتلتقي في استباحة العراق بالموت والدم واليأس وتعميق الفصل العنصري بين مكونات الشعب والوطن.

 

برودة دم السياسيين العراقيين، وما يفتحون به أفواههم، خاصة وهم في إيران، تقدم لنا صورة مقربة لتجاعيد وجه الحكم في العراق من زاوية منطقة خضراء، صار عنوانها رمزا للخيانة والعمالة وانحطاط الفكر والوجدان السياسي، ليس في العراق فحسب، لكن لأي حزب أو جهة في العالم تتصدى لتشكيل نواة تغيير في مجتمعاتها وبلدانها. وهي سابقة غير مسبوقة في الحقد والكراهية والتصميم على اللامبالاة والتعمد المبرمج على إقامة احتفاليات “العدل الميليشياوي” برعاية الولي الفقيه الإيراني الذي يتم الترويج له كولي فقيه أممي.

 

نحن أمام واقع يعتبر سد الموصل جزءا من ميدان المعركة وهدفا لبعضها، قد يكون هدفا مؤجلا أو وصية لعمل انتحاري في لحظة هزيمة سافرة

 

الموصل وفي بداية يناير ومنذ سنوات تثير الفزع وهي تنتظر شهر أبريل، أي بداية الربيع، لارتفاع مناسيب نهر دجلة وروافده في العراق، بما يسبب ضغوطا وأحمالا إضافية على الركائز السياسية في سد الموصل وبواباته، وفي عامنا هذا هناك بوابة عاطلة ومخاطر متزايدة أشار إليها العديد من الخبراء العالميين ومنهم مهندسون مختصون عملوا في السد وتحدثوا عن انهيار وشيك في لحظة معينة، جزئيا أو كليا، وفي كلتا الحالتين الكارثة تعني خسائر بشرية واقتصادية تتجاوز في تقديراتهم آثار الضربة النووية.

 

حذرنا على صفحات صحيفتنا في أكثر من مناسبة، من أن الوقاية وبعد الإنذار المبكر تتطلب جهودا دولية لتدارك ما يمكن أن يحصل، ليس مجرد تخمينات جيولوجية معروفة لتربة المنطقة التي أنشئ عليها السد في العام 1983، بل لأن عمليات حقن الإسمنت لتدعيمه، وتتولاها شركة إيطالية بحماية إيطالية، تبيّن أنها غير كافية لتأمين سلامة السد وسلامة حتى العاملين.

 

الموصل تحت نيران معركتها ضد عصابة داعش؛ الموصل بمن تثق؟ القرار السياسي العراقي مرتهن، ظاهريا، بالتحالف الدولي وغرفة العمليات المشتركة وفيها أميركا أولا؛ أما في الباطن فيبدو أن شركة حيدر العبادي متعاقدة بالروح والدم مع الشركات الميليشياوية المتعددة التي أصبح لها قانون يحمي انتهاكاتها وجرائمها وفيها إيران أولا. الموصل لا تثق بالحشد الطائفي، ولا بحكومة حزب الدعوة التي سلمت الموصل لداعش، وهي طبعا تحت مقصلة داعش، وثقتها شبه معدومة بالتحالف لأنه لم يكن جادا في محاربة الإرهاب واكتفى بالغارات الجوية المصحوبة بالأخطاء وسقوط الضحايا من الأبرياء. الجيش النظامي مخترق بالفصائل الطائفية وشعاراتها، رغم مهنية بعض وحداته في أداء واجباتها العسكرية.

 

سد الموصل بواقعه الهندسي يقع ضمن تجاذبات معركة الموصل، سياسيا وعسكريا وطائفيا، سبق لتنظيم الدولة الإسلامية احتلال السد والتعرف على منشآته، ثم سيطرت عليه القوات الكردية وهو يقع ضمن محور حركة توجهات الحشد الطائفي وتحت مرمى المدفعية لكل الأطراف ومنها داعش، أي أننا أمام واقع يعتبر سد الموصل جزءا من ميدان المعركة وهدفا لبعضها، قد يكون هدفا مؤجلا أو وصية لعمل انتحاري في لحظة هزيمة سافرة.

 

الرسائل لا يمكن إهمالها في عالم السياسة، وفي ذهني وصفات إعلامية أطلقت كبالونات صغيرة ثم تبلورت إلى قرارات وصراعات وحتى حروب، وألقت بنتائجها على مساحات زمنية ومكانية مفتوحة، وليس ببعيد الرسائل المغلفة بدهاء الساسة الأميركان عندما سمح الرئيس الأميركي باراك أوباما لنفسه بأن يكون اللاعب الأساس في الإعداد للضربة الكيميائية في الغوطة الدمشقية في أغسطس 2013 والتي ذهب ضحيتها أكثر من 1500 مواطن سوري، وذلك بإطلاقه التحذيرات من مغبة تجاوز الخط الأحمر واستخدام السلاح الكيميائي، وتكراره المستمر للتحذير، الذي أراه الآن يقع ضمن الرسائل الخطيرة التي تعبئ السلاح وتطلقه بيد الآخرين دون أن تقع في دائرة الحساب أو الاتهام أو حتى الشك.

 

رسائل السد وإن كانت حقيقية ومبنية على حسابات مختبرية، إلا أنها في جانب آخر منها سلاح رعب بيد الإرهاب الداعشي، سلاح جاهز لا يتورع التنظيم عن تجربته بعد تجارب لإنتاج ذخائر كيميائية في معامل بدائية استُهدِفت بالموصل في العديد من المرات، وهي أيضا كإبادة بشرية حتما يسيل لها لعاب المشروع الإيراني لأنها إبادة مقنعة تتماهى مع أسلوب الثأر والانتقام الطائفي والتشفي ودون مساءلة، ولا بأس من التضحية بأعداد من مقلديها، وهم غالبا عراقيون، لتبقى إيران ومدنها -كما قال خامنئي- بعيدة عن آثار الحرب.

 

التحالف الدولي أو الجيش النظامي الأخطاء عندهما واردة، أو ربما الضربات مجهولة كما جرى مع تحقيقات استهداف قافلة الإغاثة التابعة للأمم المتحدة من طيران حربي وهي باتجاه مدينة حلب، تبرأ من فعلتها الجميع في زمن الرصد الفضائي والإشراف الدولي؛ التوقيت وتأخير إنجاز مهمة تحرير الموصل، إذا ما تأجلا للربيع، ربما تأتي الكارثة وفق توقيتاتها الطبيعية، لكنها تؤدي الغرض المطلوب في قائمة أهداف القوى المتصارعة.

 

وسط هذا القلق المشروع يبدو العبادي وحكومته بلا ملامح كالعادة، فالأمر لا يعنيهم ربما لأن الأعذار موجودة وأهمها أن سد الموصل هو بعض من مشاريع العهد العراقي البائد. الكارثة إن وقعت لا تنفع معها كل دموع وأحزان الأرض، لذا من واجب المنظمات الدولية والإنسانية والجمعيات الجيولوجية والاتحادات المعنية التدخل لمنع انهيار السد، والضغط لإنهاء تحرير الموصل بوسائل أكثر تقنية مع إرادة فاعلة، لتمكين الناس من النجاة من الإرهاب ومن احتمال انهيار السد وتأمين أماكن لهم؛ وهذا نداء لكل منظمات المجتمع المدني والناشطين في العراق لإيصال صوتهم الرافض لهذه اللامبالاة بالضغط على النظام السياسي في العراق على طريقة نوبة غضب بمناسيب رسائل الاستغاثة.

 

كاتب عراقي

حامد الكيلاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *