محمد صالح البدراني يكتب: مرض التكديس

في منظومة تنمية التخلف يكون المبدع غريبا في قومه، ولعل هذا ذكرني بمالك بن نبي الذي استخدم كلمة التكديس في تقليد مؤسسات للدول الغربية عندنا، واستحضار تفاصيل مؤسساتهم التي انشات لحاجتهم هم.


الاصل بالحكومة والسلطة هي عقد اجتماعي يقوم بعض الناس من الناس أنفسهم برعاية مصالح المجتمع نيابة عنهم وتطبيق القوانين المتفق عليها بينهم، وهذه تنشأ تدريجيا ولا تأتي كحزمة واحدة من قائد مجموعة صيد او غزو…. الى ان نصل لعلاقات خارجية وداخلية ومراكز دراسات وغيرها، فالأمم التي تقدمت بنت حسب الحاجة، انشأت كليات لتدريس ما يحتاجه اقتصادها، ووضعت مراكز دراسات تقرر نوع وعدد المطلوب لها في مرحلة زمنية بالسنين وتبع السوق، لكن الامر مدروس والكوادر تخرج الى مهامها. كذلك الاحزاب اتت لتعبر عن ايدلوجيا او وجهة نظر اجتماعية او سياسية او ادارة الاولويات ولها برامج تعرض على الجمهور فيكون انتخابها كاستفتاء ضمني على برامجها وعادة ما تكون حزبين او ثلاثة.

اما في البلدان المتخلفة، فقد نقلت الهيكليات دون الحاجة لوظيفتها، فمثلا ما حاجتك لمركز دراسات صناعية وانت لا تصنع، وبحوث زراعية وانت لا تزرع، ومجالس محلية وبرلمان وانت تقودك العشيرة او الرجل الفذ…. ثم مع الانفتاح تجد عشرات ومئات الاحزاب بلا ايدلوجيا او مشروع متصارعة على السلطة والمال لا الانتاج ولا مشاريع الانماء؛ فليس هنالك منطق دولة للاختلاف، هذا التكديس الديكوري، كمن يخرج للحديث ووراءه مكتبة ويستثيرك جهله، فلما تحقق في مكتبته تجد ان الكتب لم تفصل صفحاتها بعد الطبع.
اذن الوظيفة مفقودة، لكن المال موجود فتتخم الدولة بعناوين لا فائدة منها ولا عمل حقيقي، وعندما تتعاظم الاعداد بمدارس وجامعات بلا تخطيط وتنمية مقابلة تتخلص من البطالة العملية او المقنعة، هذا سيجعل التعلم كيفي وليس برؤية تنموية، فيتجهون للاختصاص الاعلى راتبا، وتنزح الشباب من القرى لتصطدم بدولة متخمة لم تعد قادرة على المزيد من العمالة بدون عمل، فمن درس في الجامعة لم يعد بإمكانه ان يعود مزارعا او سائق اجرة او صباغ احذية وهو مقتنع، وانما تأهيله لسوق عمل وهمية هكذا وطن نفسه يدرس من اجل الرزق بالوظيفة، وهنا تبدأ الاضطرابات والانتفاضات، وبدل ان تكون هذه كناقوس يدق عاليا بضرورة اعادة تنظيم الدولة اداريا وبطرق علمية وتوظيف حقيقي للموارد البشرية، يتهم هؤلاء الشباب بانهم اتباع لهذا الطرف او ذاك وانهم يتآمرون ضد الحالة التي يراها من في السلطة مثالية، فلا يشعر بحرارة الصحراء في منتصف تموز الا من غادر خيمته المكيفة.


بقاء الحال يهدد أي نظام مهما كانت ادوات امنه، فلابد ان تعالج ظواهر العمل في توظيف الموارد البشرية ليس بمجرد التوظيف وانما ادخالهم في سوق العمل من خلال تنظيمهم في (مجموعات) عمل تتنافس على التنفيذ ويحكم على نوعية مخرجاتها الى ان تندمج هذه المجموعات لتكون شركات كبيرة تنافس الدولة في التوظيف بعد زمن، ولكن هذا يحتاج دراسة وتخطيط حقيقي ونوعي، مجموعات العمل التخصصي مهمة في التوسع لأسواق خارج الحدود القطرية، ونحن نشاهد تجربة ناجحة في الاقليم للعمل ككروب مثل (هيمن كروب) في كردستان ومجموعات باختصاصات متعددة، الذي قام بأعمال الطرق، وربما تطور سوق العمل قد ينشئ مستقبلا مجموعة عمل اخرى لن تكون منافسة في وقت قصير. لكن في عموم العراق فسيتكون في كل مدينة مجموعة او اثنين في كل اختصاص تعمد الحكومة الى اعطائها العمل، وتقوم هذه المجموعات بتعزيز خبرتها ونوعية عملها من خلال التعاقد كمشاركات مع شركات اكثر خبرة من دول الجوار او اوربا.


وهنا يأتي دور مراكز الدراسات في الدولة والشركات فهي مهمة لتحشيد الخبرة والكفاءات ورسم السياسات والاقتصاد ومعالجة الاخفاقات ونقاط الضعف والتداعيات في المجتمع والسياسات والابتكارات والعلوم، وهي عملها طويل زمنيا وربما ان لم توظف الكفاءات بدعم عالي جدا، فان مخرجاتها قد تكون متأخرة عن تقدم التفكك والانحلال.


لابد للدراسات ان تعالج المسالة الأيدلوجية المفقودة اعماقها واستكشافها وتوظيفها للرقي المجتمعي، وهذا مهم لتنشئة المدنية دون جنوح وترتبط بالقيم والهوية


ان تكديس أي شيء لا يعني الا اشغال مكان بلا فائدة مالم يك له غرض فلابد من اعادة النظر من العقلاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *