الموصل تستقبل 2017 بأزمات إنسانية تفتك بسكانها   

 

مع انقضاء عام مضى واستقبال آخر جديد، لا تزال مدينة الموصل العراقية تئن تحت وطأة أوضاع إنسانية متصاعدة في التدهور جراء سيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي على معظم أحيائها وطول أمد معركة تحريرها بعد أن فشل رئيس الوزراء حيدر العبادي في تحقيق وعده بطرد التنظيم منها قبل حلول نهاية عام 2016.

 

فالمدينة الواقعة على بعد 400 كيلومتر شمال العاصمة بغداد لا يزال “داعش” يسيطر على ثلاثة أرباعها، ويقاوم مسلحوه ائتلافا تسانده الولايات المتحدة يضم 100 ألف من جنود الجيش والقوات الخاصة والشرطة الاتحادية والمقاتلين الأكراد وقوات الحشد الشعبي.

 

ويعتبر أكثر من مليون نسمة عالقين وسط الحرب داخل المدينة، خاصة في المناطق التي لا تزال خاضعة لسيطرة “داعش”، من أكثر المتضررين من إطالة أمد المعركة.

 

وباتت حركة المدنيين مقيدة داخل المدينة وسط المعارك وتدمير طائرات التحالف الدولي الجسور الرابطة بين ضفتي نهر دجلة الذي يشطر المدينة لنصفين، لكن الأسوأ من ذلك هو محاصرة القوات العراقية للمدينة وقطع الامدادات الغذائية بشكل شبه تام عن المناطق الخاضعة لـ”داعش”.

 

“أبو طة” أحد سكان حي “المالية ” في الجانب الايسر من مدينة الموصل والذي ما يزال خاضع لسيطرة التنظيم، قال ، إن “الوضع الإنساني في المناطق التي ما تزال تحت قبضة داعش تشهد تدهورا خطيرا”.

 

وأضاف أن “الوضع الإنساني تفاقم بعد نفاد خزين الأهالي من المواد الغذائية والماء، وصعوبة الوصول إلى السوق الرئيس وسط المدينة بسبب تدمير كل الجسور التي تربط الجانب الشرقي بالأيمن، وعدم توفر وسائل نقل أخرى، وانتشار القناصة في كل مكان واستهدافهم أي حركة في الشوارع قد لا تروق لهم في لحظتها”.

 

وتابع أبو طه أن “غذاءنا منذ أكثر من شهر هو التمر فقط وأن الأطفال أصبحوا نحيلون جدا ويعانون من أمراض مختلفة ولا نستطيع توفير احتياجاتهم وقد نفقدهم بين لحظة وأخرى”.

 

توقف الرجل للحظة عن الكلام قبل أن يجهش بعدها بالبكاء بحرقة وتتعثر كلماته محاولا السيطرة على أعصابه إلا أنه لم يستطع واستمر هكذا لدقائق عدة ليختم مكالمته بمناشدة الجهات المعنية الإسراع بإنقاذهم من خطر الموت قبل فوات الأوان.

 

وتقدمت القوات العراقية -التي تشن هجوما مضى عليه 10 أسابيع لاستعادة الموصل من التنظيم- في الأحياء الشرقية بالمدينة في حين طوقت قوات أخرى المشارف الجنوبية والشمالية، لكن تقدمها تعرقله موجات من الهجمات المضادة من المسلحين الذين يسيطرون على المدينة منذ منتصف 2014 وأقاموا شبكة أنفاق استعدادا للدفاع عن معقلهم في أكبر مدينة بشمال العراق.

 

ويعني التقدم البطيء أن الحملة قد تستمر طوال الشتاء، كما أثارت ذلك تحذيرات من منظمات إغاثة بأن المدنيين يواجهون حصارا شبه كامل في الأشهر المقبلة.

 

الناشط المدني في مجال حقوق الإنسان سرمد الطائي، قال إن “الموصل تمر بأزمة حقيقية وإن خطر المجاعة يترقب بالسكان من كل جهة بانتظار الوقت المناسب للانقضاض عليهم”.

 

وأوضح أن “الوضع بالمدينة بحاجة إلى تحرك عاجل وجاد من قبل الحكومة المركزية (حكومة بغداد) والمجتمع الدولي من أجل إنقاذ الوضع وليس إطلاق الوعود عبر وسائل الإعلام وعدم تنفيذها”.

 

وأشار إلى أن “التقارير الواردة من داخل الموصل عن الوضع الإنساني مرعبة فالسكان لا يملكون المال لشراء رغيف الخبز في ظل وصول سعر كيلو الدقيق إلى 90 ألف دينار عراقي (نحو 65 دولارا) والقيمة المادية ذاتها لكيلو الأرز، وعلى هذا المنوال شهدت أسعار بقية المواد الغذائية ارتفاعا كبيرا بعدة أضعاف”.

 

وأشار الاعظمي بحزن شديد إلى أن المدينة بجانبيها الشرقي والغربي لا تشهد فقط أزمة في المواد الغذائية، إنما هناك أزمة وقود بجميع أنواعه المستخدمة في أعمال الطهي والتدفئة وتشغيل السيارات ومولدات الطاقة الكهربائية وهي الأخرى كل الأزمات.

 

ولفت الناشط الحقوقي إلى أن “جميع محطات الوقود أغلقت أبوابها ولم يعد هناك سوى بعض تجار السوق السوداء (الموازية) الذين أخذوا يبيعون الوقود السوري ذي النوعية الرديئة بأسعار فلكية”.

 

ويخرج “الأعظمي” من جيب سترته قصاصة ورقية تضم أسعار الوقود والتي بلغت ميلون ونصف المليون دينار عراقي (نحو 1200 دولار) لبرميل النفط الأبيض سعة 100 لتر والذي يستخدم في أعمال الطهي والتدفئة، و18 ألف دينار عراقي (15 دولارا) للتر الواحد من الوقود (البنزين) المستخدم كوقود للمركبات، أما سعر برميل الوقود المستخدم لتشغيل المكائن والآليات الثقيلة فبلغ مليون و800 ألف دينار (نحو 1500 دولار).

 

“عبد الملك السعدوني”، أحد تجار المواد الغذائية عزا  أسباب شح المواد الغذائية في أسواق الموصل، إلى انقطاع الطرق التي تربط الموصل بسوريا وتركيا بنحو تام أمام العربات الناقلة باستثناء الطرق الخطرة والتي يرفض أصحاب الناقلات سلوكها لأنها صحراوية وعرة جدا وخطرة، فضلا عن وجود قطاع الطرق الذين يقدمون على قتل الناقلين وسرقة حمولاتهم وتهريبها من البلاد لبلدان أخرى.

 

وبين أن التجار داخل الموصل بدأوا يخرجون خزينهم من المواد العينية ويقدمون على تصريفها في الأسواق بأسعار تفوق الخيال، مستغلين الأزمة التي يواجهها المواطن لتحقيق مكاسب أكثر.

 

“السعدوني” رأى أن الوضع الإنساني سوف يزداد سوءً لاسيما في الجانب الغربي من المدينة، في حال استمرت عمليات التحرير إلى فصل الربيع المقبل، دون دخول مساعدات من منظمات المجتمع المدني أو فتح ممرات آمنة لخروج العائلات.

 

الوضع الصحي ليس أفضل حالا داخل الموصل، فالمستشفيات والمراكز الصحية معطلة تقريبا لعدم وجود الأدوية وطرد المرضى من المستشفيات بالقوة من قبل “داعش” الذي خصص مقراتها لاستقبال جرحاه فقط وأجبر الكوادر الصحية على تقديم العناية الصحية اللازمة لهم مهددا المخالف منهم بالقتل، الدكتورة التي فضلت بتسميتها “ريام” خوفا من ملاحقة التنظيم لها.

 

وأضافت “ريام” أنه “لا وجود للأدوية المسعفة للحياة ومحاليل التعقيم وغسل الكلى والمواد المخدرة والمستلزمات الصحية الخاصة بإجراء العمليات بأنواعها المختلفة”، لافتة إلى أن قسم الطوارئ يستقبل المريض ويقدم له الأدوية المسكنة فقط ومن ثم يتم إخراجه بإيعاز من قبل التنظيم للجهات الطبية المشرفة على ذلك.

 

وأشارت إلى أن “خطر الموت يهدد المسنين الذين يعانون من الأمراض المزمنة كالضغط والسكر، والأطفال حديثي الولادة، بعد أن خلت المدينة من احتياجاتهم الطبية وباتوا يتألمون من شدة المرض دون أية جهة تستطيع مساعدتهم أو مد يد العون لهم”.

 

وحذرت من أن “الأمراض المعدية كالإسهال والرمد أخذت تنتشر إثر تلوث الهواء وانتشار أكوام النفايات في كل مكان وعدم توفر اللقاحات المضادة”.

 

ويوجد في الموصل 5 مستشفيات رئيسية هي ﺍﻟﺴﻼ‌ﻡ ﺍﻟﻌﺎﻡ، وﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭﻱ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ، وﺍﺑﻦ ﺍﻻأﺛﻴﺮ ﻟﻼأﻃﻔﺎﻝ، وﺍﻟﺨﻨﺴﺎﺀ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ، وﺍﻟﺒﺘﻮﻝ ﻟﻠﻮﻻ‌ﺩﺓ.

 

“أبو رؤى” أحد سكان منطقة “شارع الفاروق” وسط الموصل قال من جانبه إن ازدياد حالات السرقة في الموصل “دليل واضح على تفشي الفقر وما يعانيه الأهالي من حرمان منذ عامين ونصف العام من الحصار الخانق”.

 

وأوضح أن “ثلاثة محال تجارية لبيع المواد الغذائية وجدت قبل أيام مسروقة وأخذ منها ما ينفع لإعداد وجبات طعام فقط، وليس هذا فحسب إنما الكثير من المنازل السكنية قد تعرضت إلى السرقة”.

 

ولفت إلى أن “الأشخاص الذين يتعرضون إلى سرقة لا يشتكون لأن كلامهم لا يجدي نفعا وسط انفلات الوضع الأمني وانتشار المجاعة وكثر المتسولين الذين يطرقون الأبواب على مدار الساعة راجين الحصول على ما يسد جوعهم”.

 

ويواصل حديثه بأن الكثير من أصحاب المحال التجارية أخذوا يعدون صناديق تحتوي على مواد غذائية مختلفة تكفي لعائلة مكونة من أربعة أشخاص وتقديمها إلى المحتاجين لسد جوعهم وتجنب ارتكابهم الجرائم.

 

الخبير الاجتماعي والطبيب النفسي “عبير سلوان المقدسي”، حذر من الآثار السلبية لانتشار المجاعة بين أهالي الموصل ليس على محافظة نينوى (مركزها المدينة) فحسب وإنما العراق أجمعه من شمال إلى جنوبه، كونها الباب المؤدي لارتكاب أفظع الجرائم وحمل الأحقاد على شركاء الوطن لعقود من الزمن.

 

ووصف الجوع بــ “الوحش الكاسر إذا تملك الإنسان أرغمه على التجرد من إنسانيته ودفع به للمضي نحو ارتكاب جرائم مروعة”.

 

وكان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي قد أطلق وعودا بالقضاء على تنظيم “داعش” وتحرير مدينة الموصل قبل انقضاء عام 2016، غير أن ذلك لم يحدث نظرا للصعوبات التي تواجهها القوات العراقية خلال معركتها ضد “داعش”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *