داود فرحان يكتب:ماذا يفعل السفير الإيراني في البنك المركزي العراقي؟

في السنوات الأولى للحصار الاقتصادي الدولي على العراق بعد حرب الكويت عام 1991، تلقت وزارة الإعلام توجيهاً بإجراء مقابلة تلفزيونية مع محافظ البنك المركزي العراقي، للرد على شائعات عن إصدار أوراق نقدية مرتفعة القيمة، وإلغاء أوراق نقدية تم تزويرها بكثافة.
كانت قيمة الدينار أمام الدولار قد بدأت في التراجع بعد توقف الحرب، بسبب الحصار وحجز أرصدة العراق الخارجية، وشحة ما يتم تصديره من النفط. أبلغني السيد حامد يوسف حمادي – وزير الإعلام العراقي في حينه – أن التوجيه حدد اسمي لإجراء هذه المقابلة الاستثنائية مع المحافظ. حاولت الاعتذار لأني لم أجرب قبل ذلك إجراء مقابلات تلفزيونية، باستثناء مقابلتين مع السيد محمد حسنين هيكل عرضهما تلفزيون بغداد. واتفقنا على إجراء لقاء تمهيدي مع السيد طارق التكمجي المحافظ في مبنى الإذاعة والتلفزيون قبل إجراء المقابلة بوقت كافٍ، للاتفاق على الأسئلة. قدمتُ أسئلتي فقرأها المحافظ ثم قال إنه لا يستطيع الإجابة عن معظمها؛ لأنها تتعلق بأسرار عليا للدولة. قلت له إن التوجيه يريد حديثاً صريحاً للرد على الإشاعات، فليس من المنطق أن نرد بكلمات عمومية إنشائية من نوع: «في الواقع»، ولا نعرض على الناس الوقائع والحقائق كما هي. المهم أنني جازفت وكتبتُ أسئلة أخرى لا تقدم ولا تؤخر. واقترحت على المحافظ أن نجري الحوار في سرداب خزينة البنك المركزي في شارع الرشيد، وبجوارنا سبائك رصيد العراق من الذهب؛ لأن ذلك سيضفي إثارة وجاذبية وصدقية أكثر على المقابلة. فقال إن ذلك ليس من صلاحياته، والأمر يحتاج إلى موافقات أمنية عليا عسيرة. دخلنا إلى الاستوديو وبدأت الحوار قائلاً: «هذا أنا فلان الفلاني، أفقر رجل في العراق، أقابل اليوم أغنى رجل في العراق، وهو محافظ البنك المركزي!» فاعترض المحافظ قائلاً إنه ليس أغنى رجل في العراق؛ لأن البنك ليس ملكاً له، وإنما لدولة العراق!
وخلافاً لما اتفقت عليه مع المحافظ قبل دخول الاستوديو، وضعت أمامي ورقة الأسئلة التي اعترض عليها وبدأتُ أسئلتي: هل ستلغون فئة الخمسين ديناراً المزورة؟ هل ستصدرون ورقة نقدية بفئة مرتفعة؟ كم يبلغ الاحتياطي النقدي؟ هل ستعوضون الضحايا عن أوراقهم المزورة؟ لكن المحافظ كان أشجع مني وأجاب عن جميع الأسئلة، وأعيد بث الحلقة في ليلة العرض ثلاث مرات.
ودارت الأيام – كما قالت أم كلثوم – ليُرغم جنود الاحتلال الأميركي في عام 2003 السيد عصام رشيد حويش، آخر محافظ للبنك المركزي العراقي، على الخروج من المعتقل معهم إلى البنك، ليكشف لهم شفرة فتح خزائنه، بعد أن اكتشفوا أن أي محاولة لسرقة أموال وذهب الخزائن ستؤدي إلى غرق السراديب كلها. وفعلاً تم فتح الخزائن، وإخراج الذهب والأوراق المالية العراقية والأجنبية، وقد أتلفت المياه كثيراً منها في محاولة الجنود فتح الخزائن لسرقة محتوياتها. وكانت خزينة البنك مُصممة بطريقة لا تُفتح إلا من خلال الشفرة والمفاتيح الخاصة بها، وبخلاف ذلك فهي تُغرق نفسها بالمياه حتى يمتلئ السرداب، ويخرج منه غريقاً كل من يحاول فتحها. أما الذهب الموجود في الخزينة فهو من آثار الملك البابلي «النمرود» الذي ورد ذكره في الكتب المقدسة. وكان الرئيس الراحل صدام حسين قد أمر – بعد أن شاهد «الكنز» الأثري في المتحف العراقي – بأن يتم حفظه في مكان آمن في البنك المركزي؛ لأنه ثروة وهوية وإرث وطني. وكان هذا الأمر قبل الاحتلال بأكثر من ستة عشر عاماً. وبعد الغزو مباشرة، اختفت الأموال والذهب والمصوغات التي لا تقدر بأي ثمن. لا تصدقوا أن جنود الاحتلال الأميركي كانوا ملائكة ويؤمنون بحقوق الإنسان والنزاهة والعفة؛ لكنهم بالتأكيد أكثر «شرفاً» من هؤلاء اللصوص الذين يحكمون العراق اليوم بالإرهاب والفتاوى والغيبيات، ولم يكتفوا بسرقة البنك المركزي، وإنما سرقوا العراق كله.
وسمعت من أحد المستشارين في المنطقة الخضراء في بغداد، أن نوري المالكي حين كان رئيساً لوزراء العراق (2006- 2014) اقترح على محافظ البنك المركزي الأسبق نقل أموال البنك إلى سرداب القصر الذي يسكن فيه المالكي – وهو أحد قصور النظام السابق – لحمايتها من السرقة! وهو أمر يذكِّرنا بحكاية اللص الشريف الذي يحذر ضحيته مسبقاً من اللصوص.
والآن طرأ أمر مثير وخطير: هل من حق أي سفير أن يتجاوز مهماته وحدوده ليتدخل في صميم أسرار الدولة العليا؟ لقد فعلها السفير الإيراني الحالي في بغداد، إيرج مسجدي، مراراً وتكراراً. وهو بالعرف الدبلوماسي ليس «مندوباً سامياً»، ولا سفيراً «فوق العادة»، كما يجري توصيف بعض السفراء الاستثنائيين، ولا فوق القادة العسكريين والأمنيين، ولا فوق الرئاسات الثلاث (الجمهورية والوزراء والنواب)؛ لكن «الجوكر» بيد طهران كانت تستخدمه كيفما تشاء ووقتما تريد. ومن يترشح في أول النهار لتولي منصب ما قد يجد نفسه واسمه خارج اللعبة مع أول المساء. حدث هذا كثيراً في حكومات إبراهيم الجعفري وإياد علاوي ونوري المالكي وحيدر العبادي وعادل عبد المهدي. والكاظمي نفسه لم يكن فرس الرهان الإيراني؛ بل إن قادة إيران، وسفارتهم في بغداد لم يترددوا في اتهام الكاظمي بأن له يداً في عملية تصفية قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني في بداية العام الحالي 2020. وترأس في حينه مسجدي اجتماعاً في قصر نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق لرؤساء الكتل النيابية والأحزاب والميليشيات لدعم الكاظمي.
قبل ذلك، ترأس السفير الإيراني مسجدي اجتماعات مع بعض المحافظين في مراكز عملهم، جالساً على كرسي المحافظ! وأكثر من ذلك، قاد اجتماعات مع كبار المسؤولين في الجيش والشرطة والميليشيات في محافظات أخرى. وهو أمر لم يحدث حتى في عهد السفير الأميركي فوق العادة بول بريمر، في السنوات الأولى للاحتلال الأميركي. ولو حاول أي سفير أجنبي آخر الاجتماع مع رئيس بلدية عراقية لطردته وزارة الخارجية من العراق؛ لأنه تجاوز حدود مهماته.
لكن التطور المثير والخطير اليوم هو الزيارة الاستثنائية التي قام بها السفير الإيراني إيرج مسجدي إلى البنك المركزي العراقي، في أول أيام شهر أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، لتفقد «دائرة مراقبة المصارف» المسؤولة عن التحويلات الخارجية، ومراقبة البنوك وشركات الصيرفة وتنفيذ العقوبات الأميركية ضد إيران. حاول السفير الحصول على اعتماد مستندي يخص عقداً لصالح وزارة الإسكان والتعمير من خلال شركة إيرانية بقيمة 95 مليون دولار، يجريه بنك «بابل الأهلي» الموضوع تحت الوصاية بسبب سوء خدماته، وعدم دفعه ودائع المواطنين، وهروب مالكه إلى خارج العراق. والمشكلة أن الشركة الإيرانية موضوعة على القائمة السوداء من قبل وزارة الخزانة الأميركية والمجموعة الدولية المعنية بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وطالب السفير البنك المركزي بتغيير الموقف السلبي من البنك سيئ السمعة، وضمان فتح الاعتمادات وتحويل الأموال إلى الشركة الإيرانية. والمعلومات المتوفرة أن الصفقة المشبوهة ستمرر؛ لأن طلبات السفير الإيراني أوامر، ولو طلب زيارة خزينة البنك المركزي التي حُرمتُ من زيارتها لما اعترض أحد.
نريد إجابة أميركية على عنوان هذا المقال. أما الإجابة العراقية فبالنسبة لي ليست ذات قيمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *