كركوك وصراع النفوذ القدس العربي: يحيى الكبيسي / رصد عراقيون

هل يمكن إعادة كتابة التاريخ الديموغرافي لمدينة ما بناءً على الإيديولوجيا؟ أو بناءً على غوايات أساطير كبرى ننتجها، ونصدقها، ونسوقها بوصفها حقائق نهائية، وقدس أقداس لا يمكن مراجعتها، أو مجرد التفكير بمناقشتها؟
هل يمكن الحديث عن «هوية» مزعومة، تاريخية أو سكانية لمدينة ما؟ هل يمكن انتزاع لحظة زمنية محددة نقرر فيها مثل هذه الهوية؟ ومن يقرر هذه اللحظة؟ لاسيما أن العراق شهد الكثير من الهجرات لأسباب اقتصادية بحت، أي بعيدا عن الأهداف السياسية، الحقيقية أو المتوهمة.
في كركوك كان الصراع، ولا يزال، يستند إلى دعوات إيديولوجية وتاريخية، وأخرى تختلط فيها الهوية الإثنية بالنفط. دعوات لا تعترف بالوقائع التاريخية الثابتة، أو بالمعطيات والوثائق، او بالمقولات العلمية. ويستمر الجدل الدائم بين الأكراد والتركمان حول تاريخ المدينة، ويدعي كلا الطرفين أن حقائق التاريخ لصالحه. ويدور الجدل ايضا بين العرب والأكراد حول تاريخ الهجرات، وإذا ما كانت هجرات اقتصادية أو اجتماعية طبيعية، أم تعريبا أم تكريدا وجزءا من سياسة تعسفية لتغيير ديمغرافي مقصود. والواقع أن المدينة ذات بعد تعايشي طويل، وأغلب سكانها القدامى كانوا يجيدون اللغات الثلاث معا، وقد استقطبت المدينة حركة نزوح عالية بعد اكتشاف النفط فيها عام 1927، وبعد مشاريع الري اللاحقة، وشهدت منذ العام 1925،(وهو تاريخ أول إحصاء سكاني رسمي لسكان المدينة قامت به لجنة الموصل التابعة لعصبة الأمم، ولاحقا أعوام 1947، و 1957، و 1965)، تعدادات سكانية رسمية (قبل محاولات التعريب الرسمية المفترضة اللاحقة) يمكن الاعتماد عليها من اجل تحديد عدد السكان الحالي، خاصة انه ثمة طرائق علمية يمكن من خلالها تقدير عدد النازحين والمقارنة بين معدلات النمو السكاني للمدينة أو المحافظة ومعدلات النمو السكاني للعراق ككل.
يستقي الديمغرافيون عادة المعلومات المتعلقة بالسكان من خلال أربع طرائق: أولا الحصر الكامل المتأتي من التعداد السكاني العام، ثانيا مسوحات العينة؛ والتي تتم من خلال اختيار عينة تمثل المجتمع، ثالثا إحصاءات التسجيل الحيوي؛ أي تلك المتعلقة بالولادات والوفيات، والطريقة الرابعة هي إحصاءات الهجرة. وإذا ما كنا بصدد تحديد ديمغرافي دقيق، أو قسري لنسب المكونات الإثنية في كركوك، فإن هذا ممكن علميا. ولكن الصراع يستند إلى دعوات، تعززها علاقات القوى، وطبيعة التحالفات القائمة أو المحتملة، وليس حقائق التاريخ.
منذ اللحظات الأولى للاحتلال الأمريكي للعراق بدا واضحا أن كركوك ستكون، مرة أخرى، عنصر صراع وعدم استقرار سياسي واجتماعي طويل المدى، و عكس ذلك دخول قوات البيشمركة إلى المدينة/المحافظة، حيث كان أول عمل قامت به هو حرق سجلات النفوس في المدينة، وقد وصف جلال الطالباني حينها هذه السجلات بأنها «سجلات بعثية عفلقية»،وأدركنا حينها أننا صرنا أمام تغيير في الأدوار وحسب، من هيمنة الدولة المركزية، وبالتالي شرعنة إدعاءاتها بالقوة، إلى سيطرة البيشمركة التي تمثل سلطة الحزبين الكرديين/ سلطة الإقليم، ومن ثم شرعنة رؤيتها بالقوة أيضا.
ويبدو ان الكرد، الطرف الأقوى اليوم، يرفضون رفضا قاطعا أي تدويل لمسألة كركوك، على الرغم من أن العراق كله كان، ولا يزال، مدولا. وهكذا لم يتم التعامل مع التدويل، سواء الدولي أم من خلال الأمم المتحدة، إلا من زاوية المصالح وليس الرغبة في الوصول إلى حلول عادلة ومرضية للجميع اعتمادا على معايير قانونية وعلمية واضحة. وبدا واضحا أيضا أن طبيعة الصراع في العراق تتيح لهم الحصول على مكاسب استثنائية بوصفهم القوة الوحيدة القادرة على ترجيح كفة أي من طرفي الصراع الآخرين (العرب الشيعة والعرب السنة). وهذا ما وجدناه صريحا في عملية كتابة الدستور. وأن التحالفات السياسية، القديمة والحديثة، الإستراتيجية والتكتيكية، المعلنة وغير المعلنة، تتيح للطرف الكردي التحرك إلى أقصى مدى ممكن. في مسألة العقود النفطية، حيث ادركنا بعد سنوات من الجدال بين وزارتي النفط في المركز والإقليم، أن ثمة اتفاقا بين الأكراد والمالكي يتيح لهم توقيع هذه العقود، وكان هذا التصريح للرئيس الطالباني، قد أكد الشائعات التي راجت لحظة تولي السيد المالكي رئاسة الوزراء حول وجود صفقة ما بين الطرفين. وفي تصريح للسيد عمار الحكيم لصحيفة الواشنطن بوست في 24 تشرين اول/ اكتوبر 2009 جاء فيه « إن مطالب العرب والتركمان مبالغ فيها إلى حد ما، الأخوة الكرد يقولون إن شئتم نرجع إلى الوضع الذي كانت عليه كركوك عام 1957 قبل كل هذه المتغيرات، أو تريدون أن نرجع إلى الوضع الذي حصل في بداية سقوط النظام، وفي الواقع هناك غالبية كردية نسبية في كركوك، الطرف الآخر لا يعترف بها ويريد أن يأخذ ما أخذه الكرد، هذا هو جوهر المشكلة بحسب تصوري»، وهذا تصريح لا يمكن فهمه إلا من خلال السياق الذي يأتي فيه: اي سياق الصراع الذي كان قائما حينها بين المجلس الإسلامي الأعلى، ومن خلفه الإئتلاف الوطني العراقي، وحزب الدعوة ومن خلفه ائتلاف دولة القانون، وحاجة كلا الطرفين إلى الدعم الكردي في مواجهة الآخر في انتخابات العام 2010.
في ظل هذا الصراع المحموم، ألا يمكن التفكير بصيغة مبتكرة لكركوك خارج الصيغ الثلاث المقترحة: الانضمام للمركز، أو الانضمام إلى الإقليم، أو إعلانها إقليما لوحدها، صيغة تجعل منها علاقة شراكة بين المركز والإقليم، تعزز الوحدة الوطنية، وتنهي عقودا من الصراع وعدم الثقة. حتى لا تكون كركوك غوايتنا الأخيرة.
#وكالة_انباء_عراقيون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *