أميركا دولة عظمى من بوابة خان شيخون / حامد الكيلاني

 

الخوف القادم هو إقدام المحور الإيراني بقيادة نظام الولي الفقيه والنظام السوري وحرسهم الثوري وبأسلوبهم المعتاد على استثمار الضربة الكيميائية في خان شيخون لارتكاب حماقات أخرى في سوريا أو العراق.

 

وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف نفى وجود أي علاقة للتفجير في سان بطرسبرغ بسوريا، لكن هذا الرد أو النفي يمكن أن يفسرا لنا الانتهاك الخطير الذي حصل في اليوم التالي بالقصف الجوي لمدينة خان شيخون في محافظة إدلب السورية بالصواريخ الكيميائية المحمّلة بغاز السارين، كما تشير الأعراض الأولية وحجم الإصابات الفادحة مع اعتبار روسيا للخرق الأمني لأراضيها تهديدا شخصيا لفلاديمير بوتين، على حد وصف الكرملين.

 

الطلعات الجوية للروس وللنظام السوري كانت مؤثرة ومعلومة على مدى الأيام التي سبقت الضربة الكيميائية؛ روسيا من جانبها بادرت إلى نفي وجود مهمّات قتالية لطيرانها الحربي دون تعليقات مضافة أو إدانة، وكذلك فعل النظام السوري مستندا إلى تسليمه كامل سلاحه الكيميائي في العام 2013 إلى المنظمة الدولية المختصة بعد الأحداث المروّعة في جريمة الغوطة الشامية؛ ويسجل في الجريمتين عدم قدرة النظام على إطلاق عبارة “سقوط ضحايا من شعبنا” كما هو معتاد في قضايا مشابهة وأقل تأثيرا تحدث في أي مكان من هذا العالم.

 

الإبهام والغموض في خان شيخون والغوطة يعودان إلى اغتنام التناقض في عقلية نظام مختل، كيف؟ في 21 أغسطس 2013 كانت اللجنة الدولية لتقصي الحقائق قد وصلت إلى دمشق والقصف الكيميائي وقع على بعد كيلومترات معدودة، ولأن التحقيقات أكدت بعدها مسؤولية النظام عن المجزرة، ثم نفاذ النظام بجلده منها بالتواطؤ الروسي وعبور الخط الأحمر الذي وضعه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما كسقف أعلى لاختبار صبر المجتمع الدولي والإدارة الأميركية على الجرائم والانتهاكات المستمرة، وكان السلاح الكيميائي تحديدا بمثابة سيف مسلط على رقبة النظام.

 

حينها كيف جازف الحاكم بوضع رأسه في المقصلة؟ في وقت بدا فيه الروس أكثر استرخاء والرئيس فلاديمير بوتين لم تكن تحيط به العقوبات إثر تدخله في ما بعد في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم وسلسلة ردود الأفعال الدولية، ولم تطأ أقدام جيشه وتتوغل في مستنقع قاعدة حميميم ومنها إلى كامل التراب السوري والغوص مع الميليشيات الإيرانية في محور ثلاثي ارتكب وسَوَّق لكل مقتنيات وصادرات المشروع الإيراني باستغلال الحرب على الإرهاب لمساومة العالم على الرضوخ لتجاوزاته الإقليمية.

 

النظام الحاكم في سوريا عام 2013، دون أدنى شك، لم يكن يجرؤ على خرق محددات الخط الأحمر وركل الهيبة الأميركية؛ الرئيس باراك أوباما كان جادا في طرحه بتحذير النظام السوري بعدم تجريب وضع السياسة الخارجية لإدارته على المحك؛ لكن مع ذلك تجرّأ النظام وأقدم على جريمته؟ الجنون والتخبط قد يبرران الفعل لمعرفتنا بحالة النظام الحاكم في سوريا ومستوى الهستيريا وحجم المأزق الذي كان فيه؛ لكن هذا الطرح يُنصِف النظام ويقدم لسذاجته في اختيار توقيت الضربة الكيميائية مع وجود اللجنة الأممية لتقصي الحقائق كمحاولة منه لتثبيت حقيقة عدم وجود نظام لأي دولة بهذا المستوى من البلادة والغباء يتبنى دليل إدانته بارتكاب الجريمة وبحضور اللجنة على مقربة من مكان وقوعها.

 

بالمقابل ألقى النظام الحاكم، وهنا نؤكد أن هذه الطروحات تستند على تثبّتنا من أن النظام هو من ارتكب الجريمة على ضوء التحقيقات في ما بعد، بكل عُهدَة السذاجة والتخبط على المعارضة التي تتشوّق لإلصاق تهمة تجاوز الخط الأحمر به كوسيلة لتحريض الإدارة الأميركية على ردة فعل تتناسب مع هيبة الدولة الكبرى، وذلك يتماشى مع أجواء التصعيد والتوقعات.

 

أي أن النظام طرح نفسه كنظام سياسي مترفّع عن القيام بمثل هذه الجريمة مع وجود اللجنة الدولية والتحذير المسبق، لأن ذلك يشكك في سلامته العقلية والفكرية بإدارة الصراع الداخلي كدولة لها علاقات خارجية وحضور في الأمم المتحدة، ولهذا الأقرب والمستفيد الأكبر هو قوى المعارضة التي روّج لها النظام في إعلامه وسياساته كقوى إرهابية بمجموعها تسعى إلى السلطة وتقويض المؤسسات والتلويح بمخاطر سقوط الدولة وانتشار الإرهاب، كمحصلة حتمية للانهيار إلى العالم.

 

بعد خان شيخون يتكرر السؤال الذي ينقذ النظام الحاكم كما المتهم المجنون في محكمة: هل يجرؤ نظام حاكم نجا بصعوبة من مصير محتوم بعد تجربة وتداعيات كيميائي الغوطة على القيام بجريمته ثانية في إعادة لاختبار صبر الإدارة الأميركية الجديدة

 

بعد خان شيخون يتكرر السؤال الذي ينقذ النظام الحاكم كما المتهم المجنون في محكمة: هل يجرؤ نظام حاكم نجا بصعوبة من مصير محتوم بعد تجربة وتداعيات كيميائي الغوطة على القيام بجريمته ثانية في إعادة لاختبار صبر الإدارة الأميركية الجديدة للرئيس دونالد ترامب والمجتمع الدولي، وفي ظروف بالغة التعقيد وبغاز السارين وبقصف جوي لا تخطئه العلوم الحديثة للرصد وتعقب الأقمار الصناعية وأجهزة المعلومات الأرضية المنتشرة؟

 

ماذا بعد حجم التوثيق للانتهاكات والمجازر والإبادات والخروقات لكل المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وما مثال قصف قافلة الشاحنات المحمّلة بالمساعدات التابعة للأمم المتحدة إلا صورة لسياسة تجويع وحصار المدن والتهجير والتصفيات الجسدية في المعتقلات والسجون وتبييض سجلات العقارات والتلاعب بالملكيات الخاصة لتطبيق سياسات بعيدة الأمد لخلق الفوضى والنزاعات لأجيال قادمة.

 

هل يحتاج النظام لارتكاب مجزرة لتأليب العالم ضده؟ وما هي الرسائل من قصف خان شيخون بالكيميائي؟ النظام يعاود الرهان على سذاجة اتهامه، وتفنيده ثم اختصاره بعدم وجود سلاح كيميائي منذ عام 2013.

 

لكن ما إن مضت ساعات على الضربة الكيميائية في خان شيخون حتى بدأت برامج التضليل والتشتيت والتبرير من قبل روسيا والنظام بإعلامهما أو بالتصريحات والتحليلات البعيدة عن أبسط الالتزامات الأخلاقية، لكننا لن نتوقف عندها إلا بما تؤكده من استعجال وعدم إتقان في كتابة سيناريو مكتمل ومُقنِع، إنما تعاملا بنظام القطعة مع المعلومات والصور والتحليلات العلمية، وأخيرا بعد أن اصطدما بجزع المجتمع الدولي من تصرفاتها عادا إلى ارتداء قناع بلا ملامح لتلافي المأزق ببرودة دم امتاز بها القتلة على مر التاريخ.

 

الحقيقة إن الشفقة تحضر، وهي في الفلسفة أقسى مراتب الأحكام بالإدانة على نظام أو شخص كالحاكم في سوريا، لأن الجريمة المرتكبة تدلل على غياب مطلق لأدوات الحكم أو السيادة أو اتخاذ القرارات؛ الرسالة روسية هذه المرة، ورغم انفعاليتها لكنها اختبار للإدارة الأميركية وبتوقيت مبكر وعلى مقياس هزّ وجدان بقايا الضمير الإنساني، والمعنى كامن في الامتحان الأقسى لإدارة الرئيس دونالد ترامب وتخييرها بين أميركا الدولة العظمى أو أميركا “بزنس” أولا.

 

كل ما سيأتي، في حالة التغاضي عن جريمة أو فضيحة خان شيخون، لن يكون إلا إعادة مملّة لسياسة جون كيري – سيرجي لافروف وغياب الدور الأميركي في الأحداث الكبرى الخطيرة في منطقة الشرق الأوسط التي تسببت بها رؤية الرئيس باراك أوباما؛ لكن بعد الضربة الأميركية لمطار الشعيرات عادت أميركا إلى دورها كدولة عظمى من بوابة المدينة المنكوبة بالكيميائي.

 

من كارثة خان شيخون، على المجتمع الدولي فتح الملفات القديمة التي أغلقتها توافقات المصالح على نتائج معيّنة والقبول بها كحقائق مطلقة بالتراضي، ومنها الملف الكيميائي السوري والملف الكيميائي الإيراني، وعدم تجاهل التقارير العلمية للمنظمات المعنية وتتبّع خيوطها لفضح الجرائم والإبادات المعلومة بأثر رجعي والتي أريد لها أن تغلق نهائيا لأغراض سياسية.

 

فالخوف القادم هو إقدام المحور الإيراني بقيادة نظام الولي الفقيه والنظام السوري وحرسهم الثوري بأسلوبهم المعتاد على استثمار الضربة الكيميائية في خان شيخون لارتكاب حماقات أخرى في سوريا أو العراق في عملية تثقيب لعجلة ردود الفعل السياسية والإعلامية لتخفيف حركة الضغوط وتسارعها، وتحويل التحقيقات المرتقبة إلى تحقيقات ثانوية أيضا في مناطق أخرى.

 

الموصل هي المكان الأكثر صلاحية لتداخل الخنادق وأذرع الإرهاب من داعش إلى المندسين المجهولين الذين أعلن قائدهم قبل أيام ولاءه المطلق لوصايا المرشد الإيراني وفخره بالعمل تحت إمرة قاسم سليماني.

 

تبقى الأسئلة متصلة، لكن أهمها هل يجرؤ الأسد على إحراج موقف روسيا أمام العالم ومفاجأتها بالضربة الكيميائية دون الاتفاق والتنسيق المسبق معها؟ وماذا عن صراع الإرادات على الأرض السورية بين إيران وروسيا؟

 

بعد أن فشلت روسيا في سوريا وماطلت في الدفاع عن جرائم النظام، جاء الرد الأميركي وقال ترامب كلمته “لست أوباما والنظام الحاكم في سوريا تجاوز الخطوط الحمراء بجريمته المروعة”. الإيجاز في الكلمات تحوّل دون تأخير إلى 59 صاروخا استهدفت مطار الشعيرات وهو من ضمن 4 قواعد رئيسية ومن بين 26 مطارا عسكريا. المتغيرات قادمة وخان شيخون بداية لمرحلة جديدة اختصرت أهوال المأساة السورية.

 

خان شيخون سيناريو بائس وصورة لرذائل السياسة واحتقار لحق الحياة؛ لكن مصير البشرية يكمن في الصمود وتخطي الابتذال وإعادة اختراع عائلة إنسانية لن تبخل علينا باحترام ما يَحتَضِرُ في قلوبنا من عائلتنا القديمة.

 

كاتب عراقي

حامد الكيلاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *