المشترك بين الساسة العراقيين وأمريكا وايران / هيفاء زنكنة

 

 

 

 

حين يعجز مدير معمل أو دائرة خدمات يومية عن ضبط مؤسسته تسود الفوضى. ولخشيته من مجيء صاحب المؤسسة وتعرضه للعقاب أو طرده، يقوم، تغطية لعجزه، بمعاقبة العاملين جميعا وليس مسبب الفوضى. هذا هو منبع الإحساس بالظلم وكراهية الناس للمدراء الفاشلين، بل حتى التلاميذ للمعلم الفاشل ولدرسه.

النظام العراقي في تخبطه، يشبه المدير العاجز، إذا افترضنا حسن النية، وغسلنا النظام بمحلول الكلور المعقم، من الطائفية والفساد والرغبة المتجذرة، على مدى عقود، في الانتقام. مثال سلوكه العقيم، حملات «تحرير» المدن من «الإرهاب» عن طريق تهجير أهلها وتهديمها، قصفا وتفجيرا. وهي سياسة منهجية لتغيير ديموغرافية البلد، ورسم خارطة جديدة له، يعمل على تنفيذها منذ الاحتلال عام 2003، أي قبل إعلان «الدولة الإسلامية» عام 2014، وستستمر بعد «التخلص» من مقاتلي الدولة.

قد يكون هناك اختلاف، في التطبيق، بين سياسة الادارة الأمريكية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتأرجح التأثير صعودا ونزولا بين الاثنين المتنازعين على الأرض العراقية، إلا إن الصورة النهائية ستكون محكومة بالتخطيط الاولي الذي ذكره دافيد بترايوس، قائد قوات الاحتلال السابق للعراق، ذات مرة بان ‘ما نحتاج إليه هو العنف المستدام’ داخل العراق، أي العنف المسيطر عليه لفترات مديدة، ومن مصطلحاته ‘الجيل الرابع من الحروب’ و’النزاع منخفض الشدة’، لتسهل السيطرة على البلد وإبقائه بلا قوة حقيقية.

وليس العنف المستدام هذا في الواقع نظرية بترايوس نفسه، وإنما شكلا جديدا للمدرسة الواقعية التي أسسها كيسنجر وبريجنسكي لمرحلة توقعاها، تفقد فيها أمريكا القدرة على فرض حلولها المفضلة للصراعات بقواها الخاصة. فاستراتيجيتها هي ما تلجأ إليه الآن عندنا، عبر إدارة الصراعات، وحتى صنعها لتدمير أو منع نهوض أي خصم لها. ويتم إدارة هذه الصراعات، بل وإدامتها، خلال التوازنات الإقليمية، والقوات الخاصة، والتكنولوجيا المتفوقة والمحتكرة والمقننة للحلفاء، ومنع قيام أي جهة قادرة على التصرف المستقل حقا. وقد أضيف إلى تلك الاستراتيجية، منذ احتلال العراق، حسب تصريحات زير خارجيتهم كولن باول، حينها، خزين الأسلحة الناعمة كالمجتمع المدني والإعلام. وقد تطور في هذا المجال اختراق النقابات وتجنيد الحركات النسوية والخيرية، ومن لديه الاستعداد للخدمة من المثقفين، ورجال الدين، ورؤساء العشائر والتجار. وهو ما كان يجري في حقبة الاستعمار المباشر ارتباطا، وينفذ الآن بأشكال أكثر تشعبا من التمويل، عبر استثمارات تجارية أو منح ثقافية مثلا. لكن ارتباطها بوزارة الدفاع وجهاز المخابرات الأمريكي (السي آي أيه) مباشرة، مما يعني إمكانية دفعها جانبا عند أي منعطف.

يمثل « العراق الجديد» النموذج الأمثل لهذه السياسة المزدوجة بين قوتين رئيسيتين متمثلتين بالقوة الجوية، والمعسكرات، وقوات العمليات الخاصة، والمستشارين الأمنيين وأجهزة المخابرات التي تدار من السفارة الأمريكية بالمنطقة الخضراء، من جهة، وميليشيات الحشد الشعبي المدعومة إيرانيا وبتواجد أمني و»استشاري»، من جهة أخرى. وإذا كان رئيس الوزراء حيدر العبادي قد طمأن ادارة الرئيس ترامب بأن الانتصار على «الدولة الإسلامية» سينهي دور «الحشد الشعبي»، فانه وما أن وطأت قدماه أرض العراق حتى استعاذ من الشيطان من تلك الزلة « الترامبية»، مهددا ومتوعدا بقطع يد كل من يحاول مس « الحشد الشعبي»، مبرئا نفسه وراميا الخطيئة باتجاه الآخرين.

ولأن الحكومة فاشلة برئيسها الذي تتلاعب به أمريكا وإيران مثل دمية من قماش، والوزراء والنواب ينخرهم الفساد والطائفية، ليس من المستغرب ان تنتهز فرصة الخواء السياسي والفوضى، دولا إقليمية أخرى، وتمتد ذراع الموساد وحكومة الكيان الصهيوني، لتحتل مكانا في صفوف « المستشارين» و» المدربين» أما بشكل مباشر أو غير مباشر ضمن المنظومة الأمريكية. هذه الأسباب، مجتمعة، تشجع كل من هب ودب على تقديم مشاريع الانفصال عن العراق بحجج من بينها المظلومية وتوفير الحماية للمكون الفلاني من ظلم الآخر، أو انتفاء الحاجة إلى البقاء مرتبطين بحكومة مركزية تضر أكثر مما تنفع، كما تشير تصريحات النواب الكرد المتزامنة مع ملهاة رفع أو عدم رفع العلم الكردي على مدينة كركوك، ودعوة رئيس حكومة إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني، أمريكا إلى أن تتعامل بواقعية مع الملف الكردي، مشيرًا إلى أن شيئا تحت اسم عراق موحد لا وجود له، وان الاستفتاء حول « الاستقلال» آت لا محالة.

في ظل التهديدات بقطع الأصابع ( شيعيا) وإجراء استفتاء الانفصال ( كرديا) وتدويل القضايا ( سنيا)، ناهيك عن طلب الحماية وتشكيل الأقاليم من قبل البقية، يواصل أهل مدينة الموصل اكتشاف المزيد من ضحايا القصف وجرائم التنظيم سوية، ليتم دفنهم في حدائق البيوت. يصف موقع « سوالف موصلية عتيقة» حال أهالي جانب الموصل الأيمن الذي تدور فيه المعارك بالكارثي إذ يقتصر الغذاء على الحنطة والشعير ويستخدم السكان بقايا الأثاث كوقود، وانعدام الماء والكهرباء واعتماد السكان على مياه الآبار. وقد تزايد موت الأطفال بسبب سوء التغذية خاصة حديثي الولادة والأمراض الناتجة عن تلوث المياه عند الآخرين. وبينما يستخدم «تنظيم الدولة» الأهالي كدروع بشرية لا يكترث التحالف بضحايا القصف المتواجدين، بناء على نصيحة العبادي، في السراديب أو ملاجئ العمارات السكنية. أما النازحون، فأن وضعهم لا يقل سوءا عمن بقوا في المدينة، في ظل التجاهل الحكومي والعالمي. وبقلب مثقل بالمرارة والغضب، تخاطب الموصلية شهد العبيدي العالم : « تم تحرير الموصل من داعش وتم أرسال أهلها إلى المقابر وهم الآن يعيشون بسلام وأمان وتخلصوا من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان! فلا تقلقوا على أهلنا في الموصل بعد اليوم فلم يعودوا بحاجة إلى تحرير ولا تدمير، لا احتجاج ولا استنكار!”

لا غرابة، إذن، أن يشعر أهل البلد بأن ما سيجلبه الغد المبني على الدماء سيجلب المزيد من الدماء.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *