كما كان العراق نقطة بداية الصراع، سيكون نقطة الحسم / أحمد أبو دوح  

 

بالنسبة لمستشاري ترامب، ‘الشرق الأوسط الجديد’ أثبت أنه يصب في صالح الجميع، باستثناء الولايات المتحدة وحلفائها. حان وقت استعادة ‘الشرق الأوسط القديم’.

 

ثمة شكل جديد في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة لم نشهده سابقا. الحرب الباردة التي أسست لمعادلة القوى في العالم سابقا، تتحول إلى “سلام بارد” سيؤسس لشكل جديد تماما لم يعرفه أحد من قبل.

 

منطقة أوروبا والشرق الأوسط هي كالعادة نقطة التقاء الخصمين. هذه منطقة حاسمة بطبيعة تركيبتها المتناقضة. كلما حاولت روسيا والولايات المتحدة الانسحاب إلى مناطق أخرى بعيدة، جرتهما مرة أخرى إلى نقطة الحسم المعتادة.

 

على مستوى أصغر، سوريا والعراق هما محور التنافس وقاعدة تغيير واقع الشرق الأوسط لعقود قادمة. الطريق إلى سوريا يبدأ دائما من العراق، لكن ليس العكس.

 

فريق ترامب يفهم ذلك جيدا. ثمة ثلاثة جنرالات في إدارة ترامب حاربوا في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003. هؤلاء الجنرالات يتولون مسؤوليات صنع القرار اليوم في الإدارة.

 

بالتدريج بدأت ملامح الاستراتيجية الأميركية الجديدة تبدو واضحة. ترامب يريد أن يعيد النفوذ الأميركي التقليدي مرة أخرى إلى المنطقة، لكن وفق معايير جديدة.

 

ما يجري اليوم بين الولايات المتحدة وروسيا في المنطقة يذكّر بمشاهد الجزء الثاني من فيلم “Expendables“ (الفدائيون) الذي أنتجه وقام ببطولته عام 2012 سيلفستر ستالون، ومعه جيسون ستاثام وأرنولد شوارزنيغر وبروس ويليس وجين كلود فاندام.

 

فاندام، الذي يقوم بغارة على فريق ستالون ويسطو على جهاز متصل ببقايا يورانيوم مشع في قاعدة سوفيتية قديمة حصل عليه “الفدائيون” للتو من طائرة محطمة، هو تجسيد واقعي لاستراتيجية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المتسارعة في المنطقة. سياسة بوتين هي “Catch and run، اخطف واركض”.

 

لكن فريق ستالون، بمساعدة سي آي إيه، يتمكن بعد ذلك من ملاحقة فاندام، ويستعيد منه الجهاز واليورانيوم الذي تمكن من الحصول عليه بالفعل، بعد أن يقتله مع كل رجاله.

 

هذه هي عقلية البيت الأبيض اليوم. أوباما لم يفكر بنفس الطريقة. مشكلة الرئيس السابق أنه لم يضع يده على الجرح ويضغط. الجرح هنا ليس سوريا. الجرح الحقيقي هو العراق.

 

بالنسبة إلى ترامب سوريا هي أرض محروقة، لكنها مع ذلك لا تزال نقطة يمكن استغلالها في تحقيق مكاسب استراتيجية مهمة.

 

قبل اندلاع الحرب الأهلية عام 2011 لم تكن الولايات المتحدة حتى لتفكر في إقامة علاقات طبيعية مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد. اليوم صارت هناك قوات أميركية يكبر حجمها يوما بعد يوم في سوريا، ضمن استراتيجية أعلن عنها قائد القيادة الوسطى الجنرال جوزيف فوتيل تهدف لبقاء طويل الأمد هناك.

 

استراتيجية الولايات المتحدة هي عدم الاصطدام بحائط ضخم يمثل النفوذ الروسي والإيراني المشترك في سوريا. فتح ثغرات في هذا الحائط وربطها معا كي تشكل فجوة كبيرة تملأها الولايات المتحدة بحيث لا يمكن لأحد تجاوزها في المستقبل، تبدو رؤية أكثر واقعية. لكن كيف سيتم الوصول إلى ذلك الهدف؟ الإجابة التي توصلت لها عقول الإدارة الأميركية هي: العراق.

 

ما تقوم به الولايات المتحدة اليوم يشبه كثيرا ما فعلته إيران بعد الغزو الأميركي. مسك الأرض وتثبيت النفوذ في العراق، ثم الدفع خطوة خطوة باتجاه سوريا.

 

المرحلة الأولى من تثبيت النفوذ شارفت على النهاية بانتهاء معركة الموصل، ومن ثم طرد تنظيم داعش نظريا من العراق. بعد ذلك ستبدأ مرحلة التفرغ لتطويق النفوذ الإيراني.

 

هذه هي الرؤية التي تتبناها دول مجلس التعاون الخليجي مثلا. زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير نهاية الشهر الماضي لبغداد، وزيارة ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن الآن، جاءتا لرسم أبعاد هذه الاستراتيجية المشتركة، وعرض كل طرف على الطرف الآخر ما لديه كي يقدمه لضمان نجاحها على المدى البعيد.

 

لم يفهم أوباما ما يريده العرب. استراتيجية محاربة داعش، التي كانت تطبقها إدارته بخجل، كانت تندمج مع رؤية إيران للمنطقة. الخليجيون الآن يعملون على محاولة عكْس السياسة الأميركية لمحاربة الإرهاب، بحيث تصبح أكثر اتساقا مع رؤيتهم.

 

تقوم الرؤية الخليجية أساسا على حصار النفوذ الإيراني. في زمن أوباما كانت رؤى الخليج تسير في خط مواز لسياسات واشنطن، ولم تكن هناك أي إمكانية للالتقاء في المنتصف. اليوم باتت لدى الخليجيين تطلعات تتعدى التقاء رؤيتي الحرب على داعش وتطويق النفوذ الإيراني، وتصل إلى دمجهما في استراتيجية واحدة.

 

ليست هناك أي ساحة مهيأة لتحقيق ذلك الآن سوى العراق. كما كان هذا البلد نقطة انطلاق لإيران وداعش إلى بقية دول المشرق العربي بأسرها، سيكون نقطة الحسم في مواجهة تاريخية تبدو مقبلة في الأفق.

 

انتكاسات أوباما وضعت إدارة ترامب أمام معركة غير تقليدية، وتختلف فلسفتها عن كل المواجهات السابقة للولايات المتحدة في المنطقة. هذه ليست مجرد معركة لاستعادة النفوذ. هذه معركة لاستعادة الشكل التقليدي للمنطقة بأسرها مرة أخرى.

 

هذا الشكل يفهمه الأميركيون جيدا. بالنسبة إلى إدارة ترامب، الشرق الأوسط قبل “الربيع العربي” أفضل كثيرا من الشرق الأوسط بعده.

 

ترامب محاط بعسكريين بعقلية تقليدية لا تستطيع تقبل هذه الفوضى التي كادت أيام أوباما أن تنهي علاقة الولايات المتحدة بالمنطقة. ما تقوم به إدارة ترامب الآن ليس سوى محاولة إخماد حرائق كادت أن تطال مصالح واشنطن التاريخية، لصالح خلق مصالح مستجدة لعقيدة روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي.

 

بالنسبة لمستشاري ترامب، كان اعتماد استراتيجية “الشرق الأوسط الجديد” أيام جورج بوش الابن وتنفيذها فعليا في عهد أوباما، خطأ كبيرا. “الشرق الأوسط الجديد” أثبت أنه يصب في صالح الجميع، باستثناء الولايات المتحدة وحلفائها. حان وقت استعادة “الشرق الأوسط القديم”.

 

أول عمود تم هدمه من أعمدة البنيان القديم كان العراق، قبل أن يتداعى باقي المشرق العربي. لن يكون ممكنا استعادة هذا البنيان من دون إعادة بناء العمود الأول، قبل الوصول إلى هدوء يقوم على أسس واقعية، تضع مصالح دول المنطقة واستقرارها على رأس كل الأولويات الأخرى.

 

كاتب مصري مقيم في لندن

أحمد أبو دوح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *