جبهة إيران المنسية / ديفيد بولوك

 

بينما كنت أحضر مؤتمرًا في دهوك، في “إقليم كردستان العراق” قبل بضعة أسابيع، أثارت اهتمامي رؤية رئيس “الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني” – الذي يعتبره نظام طهران مجموعة تخريبيةً وإرهابية – يلقي خطابًا أمام الأعيان المجتمعين. وفي الصف الأمامي، كان يجلس ثلاثة من أبرز المسؤولين السياسيين والأمنيين في “حكومة إقليم كردستان”. أثار هذا المشهد توتّري بعض الشيء إزاء احتمال أي ردود فعل انتقامية عن إيران، فسألت ما إذا كان باستطاعتي تغطية الحدث، فجاء الردّ إيجابيًا “طبعًا، لقد انتشر الخبر أساسًا في كافة وسائل الإعلام المحلية”.

 

ولكن، كما كان متوقّعًا، وبعد أيام قليلة، شنّ مسلّحون مجهولون اعتداءً على مكتب “الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني” في “إقليم كردستان العراق” وقتلوا سبعة أشخاص. وما جعل هذا الهجوم أفظع بعد أنه لم يقع على مقربة من الحدود مع إيران، بل في قرية كوي سنجق في وسط “إقليم كردستان”. لم يُتّهم علنًا أي طرف بتنفيذ الهجوم وحتى أن “حكومة إقليم كردستان” لم توجّه أصابع الاتهام نحو عملاء إيران. ويعكس هذا الحدث باختصار وبشكل مخيف طبيعة النفوذ الإيراني وامتداده في كردستان العراق: إن تخطيتمونا، سوف نقتلكم.

 

وفي أفق هذه الأحداث المتطرفة إنما المنفصلة الواحدة عن الأخرى، يهيمن شبح إيران بقوة على مسألة استقلال كردستان الأهم. فإيران لا تكفّ عن التعبير عن رفضها الحازم لهذا الخيار – وقد تجلى ذلك مؤخرًا الأسبوع الماضي خلال زيارة مسؤولين في “الحزب الإسلامي الكردستاني” إلى طهران. وفي تناقض صارخ، رفض رئيس “حكومة إقليم كردستان” مسعود بارزاني، خلال السنة الماضية على الأقل، دعوة ما زالت قائمةً لزيارة العاصمة الإيرانية، وتردد أن السبب يُعزى جزئيًا إلى رفض إيران حتى الآن رفع العلم الكردستاني في خلال مراسم الاستقبال الرسمي.

 

وفي الواقع، خلال زيارتي الأخيرة، أفصح لي مسؤول رفيع المستوى في “حكومة إقليم كردستان” في مجلس خاص عن معلومات داخلية دقيقة حول مدى تأثير العنصر الإيراني في هذا السياق. ومؤخرًا أكّد مسؤولو “إقليم كردستان” على أنهم لا يرغبون في اتخاذ خطوات من طرف واحد للحصول على الاستقلال بل يرغبون في التفاوض مع بغداد حول شروط جديدة للتعايش أو الاتحاد أو الانفصال. لكنّ المسؤول نفسه أخبرني أنه عندما يقولون بغداد، فإنهم في الواقع يقصدون طهران، وذلك لأن الأكراد يعتبرون الحكومة العراقية خاضعة بالكامل لإيران. وبتعبير آخر، كلّ ما قد تمنحه بغداد في نهاية المطاف للأكراد سيعكس قرار طهران.

 

وعلى صعيد دنيوي أكثر، تمارس إيران سلطةً اقتصادية مباشرة لا يستهان بها على كردستان أيضًا. فشريان المنطقة الاقتصادي الرئيسي، أي النفط، يمرّ في تركيا فعليًا بدلًا من إيران. أما المفاوضات غير المنهجية حول إنشاء شبكة أنابيب جديدة تمرّ في إيران، فلم تترك أي أثر عملي حتى الآن. غير أن التبادلات التجارية الأخرى مع إيران، لا سيما استيراد المواد الغذائية الأساسية وسلع استهلاكية أخرى، تُعتبر عاملًا أساسيًا لإرساء الاستقرار في الحياة الاقتصادية اليومية في “إقليم كردستان”. كما تكتسب حركة الشاحنات المحمّلة بالمنتجات النفطية من الإقليم وإليه أهميةً. ولطالما عمدت إيران إلى إقفال الحدود أو إبطاء حركة التنقل فيه بشكل كبير كوسيلة لممارسة الضغوط وتمرير الإشارات على الصعيد السياسي.

 

في المقابل، أفصح لي أصدقاء أكراد من مجتمع الأعمال المحلي أن إيران عرضت عليهم سلعًا مجانية (أو رشاوى بتعبير آخر) مقابل موافقتهم على دعم أنشطة طهران في المنطقة أو على الأقل غضّ البصر عنها. وفي إطار أوسع بكثير، تحاول طهران استمالة “حكومة إقليم كردستان” من خلال حديثها عن إنشاء شبكة أنابيب افتراضية من حقول النفط الكردية إلى إيران، لكنّها وفي الوقت عينه، تهددها بالحديث عن إنشاء شبكة أنابيب افتراضية مختلفة تمتد هذه المرة من كركوك مباشرة إلى إيران – إنما عبر تجاوز سيطرة الأكراد.

 

ويظهر امتداد النفوذ الايراني جليًا بشكل خاص في محافظة السليمانية التي تقع على الحدود مع إيران وتخضع سياسيًا لهيمنة “الاتحاد الوطني الكردستاني” و”حركة التغيير” (كوران) المنشقّة عنه. وتربط الحزبين علاقات تاريخية وشخصية بطهران أقوى من تلك التي تجمع العاصمة الإيرانية “بالحزب الديمقراطي الكردستاني” المنافس والمتمركز في محافظتي إربيل ودهوك الواقعتين غرب البلاد بالقرب من الحدود التركية. وفي عام 2011، خلال زيارتي إلى السليمانية، سمعت أحد أبرز المسؤولين في “حركة التغيير” يقول إنه في السليمانية وحدها، “يملك العملاء الإيرانيون 700 منزل آمن”. وإذ فاجأني هذا الرقم المرتفع، سألته: “وماذا عساهم يفعلون في هذه الأماكن كلّها؟” فحملت إجابته المختصرة الكثير من المعاني: “لو كنتُ أعلم الإجابة، لما كانت هذه المنازل آمنة، أليس كذلك؟”

 

أما اليوم، فإن وجود إيران الذي يطرح تهديدات كثيرة في السليمانية، تبدّل نحو الأسوأ. فخلال هذا الأسبوع فقط، علمًا بأنني سأكتفي بذكر مثال واحد، أفصح عضو في البرلمان العراقي الذي يعادي إيران علنًا، وهو مثال الآلوسي، للمؤلف عن أنه لا يجرؤ على السفر إلى السليمانية حتى من دون أن يرافقه موكب كبير من الحراس الشخصيين. وفي إطار أوسع، ما زالت إيران تستغل هذه الانقسامات الداخلية بين الأكراد لتحقيق هدفين مترابطين هما: زيادة نفوذها عن طريق أصدقاء تابعين لـ “الاتحاد الوطني الكردستاني” ولفصائل أخرى، كي يصل حتى الحدود التركية؛ وتقويض قدرة “حكومة إقليم كردستان” على تشكيل جبهة موّحدة للتفاوض بشأن مصالحها الشرعية، سواء لجهة المطالبة بالاستقلال في نهاية المطاف أو ببساطة من أجل تأمين حصولها على الاستقلال السياسي والاقتصادي.

 

أما بالنسبة إلى سياسة الولايات المتحدة، لا سيما بعد أن بدت إدارة الرئيس دونالد ترامب الأمريكي مستعدة لاعتماد موقف أكثر تشددًا إزاء طهران، فقد باتت العلاقة الوطيدة إنما المتوترة بين كردستان العراق وإيران تطرح لغزًا محيرًا. فمن جهة، يبدو أن “حكومة إقليم كردستان” تقدّم فرصةً كبيرة، مستفيدة من دعم محلي قوي، للحدّ من النفود الإيراني على المنطقة أو حتى دحره. وإن فعلت ذلك، قد تبرز تأثيرات متسلسلة تتخطى “إقليم كردستان” بذاته، ما يضعف سلسلة العملاء التي أسستها طهران بدءًا من إيران مرورًا بالعراق ووصولًا إلى سوريا ولبنان وساحل المتوسط. ومن جهة أخرى، قد يتطلّب اعتماد الولايات المتحدة سياسة صريحة مماثلة على الأرجح التزاماً أكبر بحماية الأكراد من التهديدات الإيرانية. وقد يجعل ذلك مسألة استقلال الأكراد الخطوة المنطقية التالية ضمن هذا التسلسل، مع كل التعقيدات التي قد يحملها هذا الأمر.

 

لذلك، كما قال أحد المسؤولين البارزين في “حكومة إقليم كردستان” خلال زيارتي الأخيرة: “على المدى القصير، قد تصبح حياتنا أسهل إذا لم تدخل الولايات المتحدة وإيران في مواجهة مباشرة”. ولكن، في حال أصرّت الولايات المتحدة الآن فعلًا على الوقوف في وجه تحديات إيران في المنطقة، مع الحفاظ في الوقت عينه على حليف أساسي وحصن ضد “داعش” وجماعات متطرّفة أخرى، لن تجد مكانًا أفضل من كردستان لإطلاق حملتها. ويجب أن تتمثّل الخطوة الأولى بطمأنة بسيطة وحازمة لقيادة “حكومة إقليم كردستان” الصديقة بأن واشنطن ستدعم بشكل صريح جهودهم المحلية لتقويض الأعمال التخريبية والترهيب وبسط النفوذ الذي تمارسه إيران على الأراضي الكردية. أما الخطوة الثانية، فقد تحمل عرضًا أمريكيًا واضحًا بالإبقاء على وجود عسكري كبير داخل “حكومة إقليم كردستان” حتى بعد الانتصار على “داعش” – وحتى لو رفضت بغداد عرضًا موازيًا. بعد ذلك، تصبح الشراكة بين الولايات المتحدة و”حكومة إقليم كردستان” وأطراف أخرى للحدّ من الانتهاكات الإيرانية، ليس في إقليم كردستان وحسب، بل في المنطقة أيضًا، أكثر فاعلية وأقل خطرًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *