الدروع البشرية وتدمير المدن السنية / حسن أبو هنية

 

تحت ذريعة الحرب على تنظيم “الدولة الإسلامية” والجماعات المصنفة حركات “إرهابية” في العراق وسوريا، دمرت معظم المدن السنية، وقتل آلاف المدنيين السنة التي تدعي آلات الحرب الدولية أنها جاءت لإنقاذهم وتخليصهم من جرائم “البرابرة الإرهابيين” الذين اختطفهم “الإرهاب”، واستخدمهم “دروعا بشرية”.

وهو منطق ينسجم مع المنظورات المختلفة “للحروب العادلة”، التي تقوم على تبرير قتل مدنيين، باعتبارهم “أضرارا جانبية” لا يمكن تجنبها، في سبيل إرساء قيم سامية.

في سياق تبرير عمليات القصف والقتل العشوائي، تستخدم الدول كافة في حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية ذريعة “الدروع البشرية”، فالولايات المتحدة وحلفاؤها والحكومة العراقية لا تتوقف عن تبرير سقوط مدنيين في الموصل، وقبل ذلك في تكريت والرمادي والفلوجة، وغيرها من المدن، باعتبار مقتل المدنيين مجرد ضرر جانبي.

وعلى الجانب السوري، تتكرر دعوى الدروع البشرية مبررا لقتل مدنيين، سواء من قبل أمريكا وحلفائها من “قوات سوريا الديمقراطية” في مدينة الرقة، في إطار عملية “غضب الفرات”، أو من قبل تركيا وحلفائها من قوات “درع الفرات” في مدينة الباب، فضلا عن روسيا وإيران حلفاء نظام الأسد الذين أحالوا المدن والمدنيين إلى ركام وحطام.

يمكن القول إن المستعمرة الاستيطانية المدعوة “إسرائيل”، التي تتمتع بدعم أمريكي وغربي غير محدود، الأكثر توسعا في استخدام ذريعة استخدام المدنيين “دروعا بشرية” في حروبها ضد الشعب الفلسطيني.

ففي الحروب المدنية المعاصرة وغير المتكافئة، يساعد اتّهام العدو باستخدام الدروع البشريّة على ترسيخ الادعاء أنّ موت “المدنيين غير المستهدَفين” يشكّل “أضرارا جانبيّة” مقبولة، فبالنسبة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، يتحول جميع المدنيين الفلسطينيين إلى دروع بشريّة محتمَلة، رهائن لدى منظمات “إرهابية”.

وهكذا يتحول كل مدني فلسطيني إلى هدف مشروع للقتل. وفي سياق التبرير والإقناع، تقصف الملاجئ والمستشفيات والمدارس والمساجد باعتبارها أماكن لإيواء “الإرهابيين” وتخزين السلاح، ومنصات لإطلاق الصواريخ في إطار حروب غير متكافئة.

تحت وطأة إحراز انتصارات سريعة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، توشك المدن السنية في العراق وسوريا أن تتحول إلى خراب، في سياق ادعاءات حرب “الإرهاب”، ومنطق الحروب “العادلة”، وهي مصطلحات عمل طلال أسد على نقدها وزحزحتها في كتابه “عن التفجيرات الانتحارية”، حيث تقوم هذه الآراء على ادّعاء نوع من التفوق الأخلاقي لـ”الحرب العادلة”، ووصم أفعال الإرهابيين بالشر المطلق.

ويؤكد أسد أن الحرب الحديثة تلغي الحدود الفاصلة بين “ضحايا أبرياء” من جهة، وإصابة مقاتلين “ليسوا أبرياء” من جهة ثانية.

ورغم وجود قوانين دولية تهدف إلى رسم حدود وقواعد الحرب، إلا أن بنيتها الإقناعية هشة ومتهافتة، إذ تقوم فكرة “الأضرار الجانبية” بتغطية الجرائم غير الأخلاقية كافة التي ترتكب في هذه الحروب.

ويستشهد  طلال أسد على ذلك بتعليق وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، مادلين أولبرايت، على وفاة 500 ألف طفل عراقي بعد حرب الخليج الأولى. إذ قال “أعتقد بأن ذلك كان خيارا بالغ الصواب، لكن الثمن مناسب باعتقادي”.

 

تتجاوز حروب المدن السنية القواعد الدولية الخاصة بالحرب كافة، وتهدر حروب “الإرهاب” غير المتكافئة بنية المواثيق وديباجاتها الإخلاقية، حيث يتحول السكان المدنيون إلى مجرد أضرار جانبية، وتختلط مصطلحات “الدروع البشريّة”.

والدروع البشرية، تعني استخدام أشخاص يحميهم القانون الإنساني الدولي كأسرى الحرب أو المدنيّين لردع هجمات على المقاتلين، أو على المواقع العسكريّة، فوضع المدنيّين في مسارات القطارات والمطارات، أو في أيّ موقع يُعدّ هدفا شرعيا للعدو ابتغاء منع الأخير من ضربه، يُعدّ غير شرعي بحسب القانون الدولي الإنساني.

كما أن شن عمليّات عسكرية من داخل مواقع مدنية لا سيما  المدارس والمستشفيات والأماكن الدينية والأحياء المدنيّة، وحتّى المناطق الصناعيّة، يعدّ عملا غير شرعي، وذلك بسبب التحويل المحتوم للمدنيين إلى دروع بشريّة.

تنص المادة 28 من معاهدة جنيف على أنه “لا يجوز استغلال أي شخص محمي بحيث يجعل وجوده بعض النقاط أو المناطق بمنأى عن العمليات الحربية”.

ويشرح البروتوكول الأول الإضافي للمعاهدة من عام 1977 ذلك في المادة 51 بالقول: لا يجوز استخدام وجود السكّان المدنيّين أو الأشخاص المدنيّين أو تحركاتهم لغرض حماية نقاط أو مناطق معينة ضد العمليات العسكرية، لا سيما في محاولة درء الهجوم عن الأهداف العسكريّة، أو تغطية أو تحبيذ العمليات العسكرية أو إعاقتها.

ولا يجوز أن يوجه أطراف النزاع تحركات السكان المدنيين أو الأشخاص المدنيين بقصد محاولة درء الهجمات عن الأهداف العسكريّة أو تغطية العمليات العسكرية.

ولاحقا قام نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في عام 1998، بتصنيف استخدام الدروع البشرية “جريمة حرب”.

لا عجب من تكرار استخدام مصطلح “دروع بشرية” في تبرير قتل مدنيين في العراق وسوريا، نظرا لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مدن عديدة، حيث لا يمكن تجنب المدنيين في مدن مكتظة، ولذلك فإن معارك المدن تتضمن بداهة ممارسات حربيّة تشمل بحسب القانون الإنسانيّ استخدام الدروع البشرية.

إن الحرب الكونية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في المدن، تحت شعار حرب “الإرهاب”، عمل على تحويل المكونات البشريّة السنية إلى مجرد أضرار جانبية مرافقة، وإلى ذوات يمكن استباحتها وقتلها دون انتهاك للقانون الدولي.

إذ القصف العشوائي مشروعا، ويضفي على الحرب سمات مناقضة لجوهرها مثل الأخلاق والعدل، في سياق حملة ترتكز على الادعاء بالالتزام بالقواعد الأساسية للقانون الدولي في مواجهة إرهاب البرابرة، أعداء الحضارة، الذين يتخذون من المدنيين دروعا بشرية.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *