ماذا يريد مقتدى الصدر /  د. ماجد السامرائي  

 

الصدر يعتقد بأن مادته التي لا يمتلكها خصومه هي الشارع، ولهذا يعود إليه مجددا مشحونا بالعاطفة من خلال إعلانه عن {محاولة لاغتياله} وهي مسألة مرتبطة بالجهات الاستخبارية والأمنية لجهازه الخاص أو الأجهزة الرسمية الحكومية.

 

في السياسة كما في لعبة البوكر أرقام الكارتات مهما بلغ حجمها لا تعني شيئا إن لم تخدم الجوكر، والسياسيون المحترفون يتقنون لعبة الجمهور لخدمة مشاريعهم وأهدافهم. لكن السياسة في العراق لا تسير وفق المعايير المعروفة في العالم الديمقراطي المتحضر، حيث يقوم التنافس بين السياسيين على كسب المواطن من خلال الإنجاز الواقعي. ويتحتم على السياسي في تلك البلدان المتقدمة مهما كان حجمه ومكانته الانسحاب لغيره في الساحة عندما تختل العلاقة المقدسة بينه وبين المواطن.

 

التواصل الميداني مع الجمهور المستهدف في حملات السياسيين الانتخابية مهم، إضافة إلى ما وفرته تقنيات التواصل الاجتماعي من طاقة هائلة لهذا الهدف بل أصبحت أكثر فاعلية من اللقاءات المحدودة المباشرة. وهناك فرق بين معادلة جمهور النخبة المتعدد والمتفاوت في المستويات الثقافية، وبين جمهور الشارع الذي يرمز دون شك إلى مكانة القائد السياسي لكنه ليس دائماً يخدمه وقد يخذله في لحظات معينة. نعم إنه قوة عاطفية لكن ليس كل من في الشارع يمكن أن يستمر ويحمي ذلك القائد السياسي حين تشتد الأزمات وتوجد أمثلة من التاريخ القريب والحاضر؛ فالتظاهرات المليونية التي خرجت في بريطانيا وأوروبا عشية الاجتياح العسكري الأميركي عام 2003 لم تمنع قرار الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت داتشر من الاحتلال العسكري للعراق.

 

في التاريخ السياسي العربي لم تمنع الملايين جمال عبدالناصر من وقوع نكسة 1967 كما تبخرت ملايين صدام حسين الهاتفة في شوارع بغداد ومدن العراق “بالروح بالدم نفديك يا صدام”. لعبة الشارع لم تعد ذات تأثير فاعل في السياسة، رغم أنها قد تعطي القائد زخما مؤقتا للهدف السياسي المطلوب. مزاج الشارع العراقي متقلب وهذا ليس تقليلا من قيمته، لكنه ليس حاسما في القرارات السياسية الكبرى التي تصاغ اليوم في دوائر السياسة والاستخبارات وضمن مداخلات محلية وإقليمية ودولية معقدة.

 

قبل سنوات طويلة اختزنت في ذاكرتي حادثة فيها حكمة خرجت من لسان فلاح عراقي بسيط التقيته في قرية الدواية قبل 40 عاما بمحافظة الناصرية حكى لي عن حوار تم بينه وبين كادر من كوادر الحزب الشيوعي العراقي كان يدعوه وأهل قريته للانضمام إلى حزبه، ووعدهم بأنه بعد استلام الحكم سيمنحون كل فرد بيتا وسيارة، فرد عليه هذا الفلاح وبين يديه كيس صغير من التبغ “أنا أريد اليوم أن تملأ لي هذا الكيس بالتتن (أي التبغ) وأترك لك البيت والسيارة”.

 

في عراق اليوم يهان المواطن في كل جزئية من جزئيات حياته اليومية ابتداء من عملية جمع قمامة بيته، مرورا بكل فقرات حاجاته المعيشية كدخوله المستشفى إذا أصابه عارض صحي أو إن أراد تمشية معاملة تقاعده مثلا لكي يسترد ما دفعه من استقطاعات خلال سنوات جهده الوظيفي، فيستقطع منه ومن رزق عائلته الكثير بحجة إفلاس الحكومة في حين تسرق المليارات من دون حساب أو عقاب، ولكن تبقى محورية الجمهور أحد أهم مفاعيل التنافس بين السياسيين اليوم، ولا بد من الأخذ بالاعتبار بأن الهبة العاطفية التي أعقبت عام 2003 واستمرت لسنوات والتي استخدمت الموروث الشعبي العاطفي وطقوسه، لم تعد ذات فعالية كوسيلة من الزعامات السياسية الدينية والحزبية.

 

الآن هناك واقع أزمات متداخلة وهناك نتائج هي حصيلة سياسات للأحزاب الحاكمة، وهناك حالة إحباط شعبي عام يضيّق الفرص على تلك الأحزاب لكي تعيد لعبة كسب الجمهور، فماذا تقول هذه الأحزاب لجمهورها الذي انتخبها لثلاث دورات انتخابية. وعلى من ترمي تبعات ما حصل من كوارث إنسانية لم يمر بها شعب في الكرة الأرضية يمتلك الثروة النفطية الهائلة التي ذهبت إلى جيوب السراق، ولم تتم محاسبتهم من قبل الحكومات المتعاقبة التي تمثل تلك الأحزاب وهي وحدها تتحمل المسؤولية التاريخية، ولعل التيار الصدري هو واحد من تلك الأحزاب الرئيسية الحاكمة حتى وإن كان قد أفرز نفسه خلال السنوات الثلاث الأخيرة بالنقد العلني لمسيرة الحكم وهو داخلها، وهي حالة صحية لكنها ليست كافية.

 

مقتدى الصدر يمتلك كاريزما شعبية ورمزية بين الوسط الشيعي اكتسبها من خلال سلالته العائلية الكريمة ووضعه لمسافة بينه وبين منظومة الحكم رغم أنه واحد من أعمدتها الفاعلة. معروف أن الصدر هو أول من أسس الذراع العسكرية، جيش المهدي، كأداة نفوذ وهيمنة على الشارع العراقي، لكن هذه المؤسسة العسكرية القوية تراجع دورها بعد نكسات تنظيمية وتعبوية متعددة من بينها خروج عدد من قادة هذا الجيش وتأسيسهم لتنظيمات أصبحت لها ولاءات أزعجت الصدر نفسه. لقد أصبح الجمهور المحروم المقموع مادته وأداته السياسية في الضغط على رفاقه من قادة الأحزاب لأهداف تبدو جزءا من شوط الانتخابات المقبلة.

 

ماذا يريد الصدر من حملته التعبوية الشعبوية وخطابه المشحون بالعاطفة؟ لا شك أنه يمتلك قدرات الشجاعة السياسية إلى درجة تحديه للمخاطر الشخصية مثلما كشفه في خطابه الأخير يوم 24 مارس، وما أعلنه من حقائق لما يمر به البلد من مخاطر بسبب الفشل والفساد، وهذه النقطة تحسب له، لكن خصومه من داخل بيته الشيعي لديهم وجهات نظر مخالفة له رغم ما يعبرون في وسائل إعلامهم من احترام لمكانته، لكنهم يشتغلون بآليات سياسية محكمة باتجاه معاكس له وأصبحت لديهم خبرات العمل والمناورة.

 

هناك قضيتان تناولهما الصدر في خطابه الأخير هما؛ الإصلاح وتغيير الوسائل الانتخابية. القضية الأولى سبق له طرحها لكنها لم تحقق أيا من أهدافها المعلنة، فقد تحالف مع رئيس الوزراء حيدر العبادي للانتقال إلى قيام حكومة تكنوقراط لكن ذلك الاتفاق الشكلي قد انهار بعد اقتحام جمهور الصدر للمنطقة الخضراء، كما انهارت الكتلة الإصلاحية داخل البرلمان بعد انسحاب كتلته منها. والقضية الثانية المتعلقة بالمطالبة باستبدال المفوضية الانتخابية لعدم استقلاليتها والسعي لقيام قانون انتخابي جديد، وهي مسائل إجرائية مرتبطة بالدستور الذي يحرص الصدر على عدم المساس به، لكنه يعتقد بأن الهيمنة الحزبية السياسية على مفوضية الانتخابات من قبل خصومه ستفقد تياره قدرته على الفوز الساحق الذي ينتظره في الجولة الانتخابية المقبلة وتجيب الأحزاب ومؤسسة البرلمان التي تدعمها بأنها تنفذ آلية لاستبدال تلك المفوضية.

 

ويبدو أن الصدر قد تراجع عن تلك الهجمة المؤذية للأحزاب قبل عدة أشهر، لكنه عاد الآن بسبب ظروف سياسية جديدة متعلقة بحسم معركة الموصل وما يقال من سيناريوهات محتملة ذات مساس مباشر بما تشتغل عليه قوى الحشد الشعبي ومن يدعمها من جهة، وما يسعى العبادي لاستثماره من دعم أميركي ودولي لصالح حلمه بالفوز بكرسي الحكم بعد الانتخابات المقبلة من جهة أخرى.

 

معالم الصراع حول السلطة أخذت تتبلور بقوة بين القطبين المهمين على الأرض؛ نوري المالكي كزعيم لحزب الدعوة ودولة القانون ومقتدى الصدر، فيما يقف عمار الحكيم في الوسط معتقدا بأن مشروع التسوية هو مادته الانتخابية المسوقة محليا وإقليميا رغم فشله.

 

الصدر يعتقد بأن مادته التي لا يمتلكها خصومه في المنافسة هي الشارع، ولهذا يعود إليه مجددا مشحونا بالعاطفة من خلال إعلانه عن “محاولة لاغتياله” وهي مسألة مرتبطة بالجهات الاستخبارية والأمنية لجهازه الخاص أو الأجهزة الرسمية. الشيء الجديد في خطاب الصدر اليوم هو لمحات الاتهام والنقد القاسي لخصومه بما يوحي بأنه ضد مؤسسة الحشد، وكان واضحا في تلميحاته إلى قيادة فصائل مهمة من الحشد لمشروع توسيع دائرة الحرب على داعش في الأراضي السورية ودعم النظام القائم في دمشق. وهناك معلومات إعلامية نشرت مؤخرا عن قيام فصائل عراقية مثل حركة النجباء ولواء أبي الفضل العباس بخوض معارك طاحنة في دمشق لمنع سقوطها بيد قوى المعارضة السورية.

 

هذه الإدانة الصدرية تترافق مع ما تم تسريبه خلال زيارة العبادي لواشنطن بأن من مطالب دونالد ترامب للعبادي تصفية مهمات الحشد بعد القضاء على داعش، معتقدا بأنه على علاقة بالمشروع الإيراني في العراق، وقد تكون تصريحات العبادي النقدية للحشد داخل واشنطن تؤكد ذلك كما أعلن الرئيس الأميركي أنه عازم على تصفية المرتكزات الإيرانية في العراق. فكيف ستسير تطورات الأحداث بعد المأزق الذي وضعه ترامب أمام حكومة العبادي، وكيف ستتعامل الأحزاب الكبيرة في خضم هذه اللعبة الجديدة؟ وهل ستقدم خطابات الصدر وتصريحات بعض الفصائل السياسية الأخرى، القائلة بمواجهة أميركا، حلا للوضع العراقي المأزوم؟ وما هي تصورات أحزاب السلطة لمواجهة هذه التحديات؟

 

كاتب عراقي

د. ماجد السامرائي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *