قصة من بطن السرداب: منازل الموصل القديمة تنهار على رؤوس سكانها / *نقاش

 

انطلقت الحرب على تنظيم “داعش” في الموصل القديمة منذ ثلاثة أسابيع، أعمدة الدخان الصاعدة الى السماء تدل على معارك طاحنة، وبعيدا عن متناول الكاميرات تدور قصص مأساوية تحت سقوف المنازل لا يعلمها إلا أهلها.

معارك شرسة تدور رحاها في الجانب الأيمن من الموصل تطحن البشر والحجر على السواء، الجميع هناك مستنفر، تنظيم “داعش” والقوات العراقية وكذلك المدنيون الذين وجدوا أنفسهم وقودا للحرب وأقصى ما يفعلونه التستر بجدران المنازل التي لا تحميهم دائماً من الصواريخ والمفخخات، فقد انهارت الكثير من السقوف على رؤوسهم.

 

 

 

عندما أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي فجر يوم 19 شباط (فبراير) الماضي بدء عمليات تحرير الجانب الأيمن، كانت القنابل والصواريخ تنطلق بشدة نحو الأحياء الجنوبية، وكان ابو معد قد نزل الى سرداب منزله رفقة 50 فردا من عائلته واقربائه.

 

 

 

“اننا ذو حظ عظيم لوجودنا في السرداب، انه المكان الاكثر امانا وسط هذه الحرب المجنونة”، يقول ابو معد (45 عاما) مطمئنا مَن حوله عندما اقتربت أصوات المعارك ودوت انفجارات عدة قريبة منهم.

 

 

 

ليس الخوف وحده الذي يأسر سكان احياء الجانب الايمن من الموصل، بل هناك جوع وعطش ونقص شديد في الدواء وانعزال عن العالم بسبب انقطاع الكهرباء وشبكات الاتصالات والانترنت، وهو نتيجة الحصار التام الذي فرض على المدينة منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2016، عندما قطعت قوات الحشد الشعبي العراقية الطريق بين الموصل وسوريا.

 

http://www.niqash.org/ar/articles/security/5485/

 

 

 

العلاج بالصواريخ

 

ابو معد والخمسون فردا وغالبتيهم نساء واطفال قضوا (15) يوما محشورين في تسعين مترا مربعا حيث عانوا كثيرا من نقص الأوكسجين، “لقد كان سجنا من دون سجان، لا يخرج اي منا الا لحاجة ملحة” يقول الرجل بكثير من العتب والخيبة وهو يقص قصته لـ”نقاش” وهو يجلس قريبا من ركام منزله.

 

 

 

وحتى هذا الوضع السيئ جدا لم يكن ليدوم، يوم 8 اذار (مارس) وصلت القوات العراقية قريبا من المنزل اهتز السرداب بشدة اثر الانفجارات وأزيز الرصاص كان كالمطر، عند الغروب دخل مسلح من تنظيم “داعش” المنزل من فتحات تربط منازل الحي كلها كان التنظيم حفرها قبل ايام استعدادا لهذه اللحظة، ومن الطابق العلوي أطلق المسلح النار نحو القوات العراقية ثم غادر سريعا، اختفى عبر الفتحات أيضاً.

 

 

 

“لحظئذٍ اضطر ثلاثة افراد (شقيقتي وطفلها وابن عمي) الخروج من السرداب لجلب الطعام والماء وقضاء بعض الحاجات، وسألتهم العودة بسرعة وعيناي مسمرتان على الباب الذي بقي مفتوحا”، يضيف ابو معد.

 

 

 

في هذه الاثناء كان جندي عراقي يختبئ في منزل قريب وقد أعطى إحداثيات الى الطيار: “نتعرض لإطلاق نار من هذا الشارع (وحدد موقع منزل ابو معد)، يرجى معالجته فورا”، وعندما كرر النداء للمرة الثانية سمعه احد الجيران فأخبره على عجل ان هناك 51 مدنيا وترجاه أن يلغي النداء فورا.

 

 

 

طلب الجندي عبر جهاز اللاسلكي الغاء الامر لوجود مدنيين، الا ان الصاروخ كان اسرع، فدوّى انفجار هائل دمر المنزل المكون من طابقين وحوله الى ركام.

 

 

 

عشرات المنازل واجهت هذا المصير، بعض السكان نجوا بأعجوبة كالعائلات الخمس التي أنقذتها القوات العراقية يوم 12 آذار (مارس) في منطقة موصل الجديدة بعد “معالجة منازلهم” لكن مدنيين آخرين دفنوا تحت الأنقاض بعد ان فجر تنظيم “داعش” سيارة مفخخة بين المنازل في منطقة المأمون ولم تنتشل جثثهم الا بعد أسبوعين، وهذا ما يحدث اليوم كثيرا في احياء الموصل القديمة المتراصة والهشة.

 

 

 

يبدو أن يد القوات العراقية تضرب بقوة في معارك الجانب الأيمن حيث يسكن نحو (750) الف نسمة في مساحة اصغر من الجانب الأيسر، فوجود اي قناص او مسلح من “داعش” داخل بناية ما يعرضها للقصف ويعرض المدنيين بطبيعة الحال الى خطر الموت.

 

 

 

يوم القيامة

 

الصاروخ الذي اصاب المنزل قوي جدا، دخلت كتلة لهب الى السرداب ومعها شظايا وغبار، ارتطم الجميع بالارض والجدران، خيم الظلام وكان الأطفال يصرخون ويسعلون بشدة وكذلك النساء، تفحصتهم فوجدت ان اربعة مصابون بحروق وكسور شديدة، يواصل ابو معد سرد قصته بالتفصيل.

 

 

 

انتظرت من يسعفنا وعندما لم يصل احد اعتمدت على نفسي وبدأت بازاحة الانقاض التي تراكمت امام باب السرداب، لقد هالني المنظر لم يعد هناك منزل مجرد ركام، بحثت عن الثلاثة الذين صعدوا للاعلى وجدتهم فاقدي الوعي وينزفون بشدة تحت الانقاض، هرعت الى القوات العراقية طلبا للمساعدة لكنها رفضت التدخل، “ارجع الى الداخل” هكذا رد احدهم ويده على البندقية وعينه تراقب الشارع فمسلحو التنظيم ما زالوا قريبين.

 

 

 

رجعت مرة اخرى نقلت المحاصرين في السرداب الى منزل مجاور لم يستطع احد مساعدتي لان الوضع لم يكن آمنا بعد، الجرحى الثلاثة فارقوا الحياة اما اعيننا بسبب النزف الشديد، والاربعة الاخرون بقوا يصرخون من الألم طوال الليل حتى وصلت عجلة للقوات العراقية ونقلتهم الى مستشفى القيارة جنوب الموصل.

 

 

 

ابو معد والناجون معه يحاولون نسيان ذلك اليوم المشؤوم بالرغم من انهم بقوا في حيهم (المنصور)، انهم يرددون الكثير من العتب واللوم على ما جرى، كما ان الصدمة ما زالت تخيم عليهم فلم يجرؤ اي منهم على الذهاب الى مسرح المأساة، لكنهم ممتنون للسرداب الذي نجاهم من موت محقق.

 

 

 

الرجل الذي فقد ثلاثة افراد من عائلته ومنزله فضلا عن سيارته التي احرقها عناصر داعش يأمل ان يتم تعويضه، لكن يبدو ان هذا الأمل ضعيف جدا فلم يزره او يتفقده أي مسؤول بل ان بعضهم نسب الى نفسه الفضل في إنقاذ وإسعاف المحاصرين.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *