رفض التعايش في المهجر قد يؤدي إلى الإرهاب / العرب أسعد البصري / رصد عراقيون

 

التفكير بالجنة هو رغبة في العودة إلى الوطن. رغبة في العودة إلى الشباب. وهذا ما يجعل من هذه الفكرة في المهجر ذات جاذبية كبيرة وقد تؤدي إلى انتشار عقيدة الموت والإرهاب.

قضيت جزءا من طفولتي بالمدينة ولاحظت أن الدين ليس له حضور كبير في طفولة أبناء المدينة. وحين انتقلنا إلى القرية كان الله يملأ المكان، فالعالم بطيء وترى المد يصعد كل يوم، والجزر يكتسح الشواطئ حيث علاقة الإنسان مباشرة مع الطبيعة.

 

المطر والرياح وصوت العصافير وعند الجميع وقت كاف لأن يرفعوا رؤوسهم للنجوم فلا توجد مصابيح إنارة مثل المدينة والسماء متلألئة. كأن هناك حريقا في السماء لا ينطفئ إلا بالغيوم. وكنا نسأل كثيرا عن المطر والنجوم والسماء وطبعا تكون الإجابة هي “الله” فهو الجواب عن كل سؤال. بينما في المدينة لا توجد هكذا أسئلة فالحركة مستمرة وهناك دائما ما تفعله ويشغلك عن العالم الكبير.

 

إن الدين يحدث بسبب الحب فالإنسان يحب الإنسان، ولتقريب المسافة بين البشر تكون هناك شراكة من هذا النوع حيث يعطي الإنسان لحياته ولأفعاله وآلامه أهمية خاصة. فالأرض مركز العالم، وفي القرية ينهض الإيمان مع الأخلاق. فلا توجد مسافة بين الدين والأخلاق.

 

الفكر العلماني ظهر مع الثورة الصناعية أي أنه جزء من المدينة حين يحل القانون مكان الأخلاق، وأعتقد أن العلمانية هي انفصال الإنسان عن الإنسان. في الطائرة تحدثت مع محام أميركي وذكرت له بأنني لم أتقبل الحياة الغربية لهذا السبب فنحن لا نفهم المسافة بين القانون والأخلاق. إن الحياة المدنية تعني الالتزام بالقانون أما الأخلاق فقضية ثقافية وشخصية.

إصرار الذاكرة لسلفودور دالي

 

تبدأ العلمانية الحقيقية حين تقبل بكونك وحيدا. تفقد مهارة العيش مع الناس ومعها ذلك الشعور بأن ربّا يراقبك من خلال السحاب ويحصي أعمالك وكلماتك. إنها في الحقيقة تعني القبول بالاكتئاب، وهذا سبب حديث الحكومات العربية عن الترفيه والسعادة العلمانية. إنهم لا يقصدون بأن الشعب تعيس بل إن الدين يوفر نوعا من السعادة التي تحتاج إلى بديل بسبب رغبة الدولة بالتحول الصناعي الحديث.

 

يأتي المهاجر العراقي إلى كندا وغرائزه مستيقظة ووجهه مليء بالحياة والطموح. الناس هنا يعرفونه من ملامحه والفتيات يخرجن معه ويقعن في غرامه. هو لا يفهم السبب وقد يظن بأن عنده مواهب خاصة.

 

لا يفهم بأنه قادم من عالم بدائي ليس فيه تعب العصر الحديث، ومُشبَع بالعائلة والنَّاس. لم يشرب الكآبة والضغوط الحديثة بعد. ولكن مع الزمن تموت غرائزه ويفقد تلك القدرة على المغامرة وربّما يشعر بخطورة الاقتراب من البشر بسبب التعقيد القانوني.

 

ينكمش ويصبح وجهه ضائعا ليكبر عقله ويفهم بأنه وحيد وأن العالم الحديث مسؤولية. فهو لم يعد ذلك القادم من الكبت العاطفي إلى الحرية الجنسية والثقافية. سيكتشف حدود رغباته وكلماته بنفسه ويسقط من شجرة العالم القديم كما تسقط ورقة صفراء في الخريف.

 

إنّ مركزية العالم القديم حيث الدين والعائلة والنَّاس تمنحك السعادة والشعور الوهمي بأنك تسيطر على حياتك، بينما العالم الغربي يقنعك بأنك لا تملك أيّ سيطرة على حياتك، ولا أهمية لحريّتك وغرائزك ومَحْياك ومماتك. هناك مَن يتفهم ويقبل بمصير الإنسان، وهناك مَن يقف ليصلّي وقد تحدث مشكلة لعقله. هكذا يظهر التطرّف عادة كمقاومة للتاريخ البشري بسبب الفجوة الحضارية.

 

لماذا برأيك أمم متحضرة عظيمة مثل الشعب الإيراني أو الشعب التركي تتردّد بدخول العالم الحديث وتنتخب حكومات إسلامية؟ هذه الشعوب تقاوم القبول بالتغيير.

 

كيف يمكن لشعب التضحية بالشاه والقبول بالخميني؟ كيف يرفض شعب الإخلاص لأتاتورك العلماني والانقلاب إلى أردوغان الإسلامي؟ ما هو السبب؟

 

السبب برأيي هناك “سعادة بالهوية”، الشعوب تريد الاحتفاظ بطريقتها في العيش وهذا غير ممكن. أوروبا مثلا قامت بتضحيات كبيرة في سبيل دخول العالم الحديث. إن الكآبة العظمى تتحقق حين تقبل بالعقل وتضحي بالعاطفة. هذا ما فعلته أوروبا مثلا.

 

صديقتي الإيرانية كانت تعمل بالآلاف من الدولارات شهريا، مع هذا تركت كندا وذهبت للعيش في طهران منذ عشر سنوات. تعمل الآن في وظيفة بسيطة ربما تكسب 500 دولار شهريا. وعندما سألتها لماذا؟ قالت ليس مهما كم أكسب بل المهم كيف أعيش؟ فالإنسان مثل المجتمع تماما معرّض لاتخاذ قرارات متعلقة بهويته وأسلوب عيشه.

 

الشعوب تريد الاحتفاظ بطريقتها في العيش وهذا غير ممكن. أوروبا مثلا قامت بتضحيات في سبيل دخول العالم الحديث. إن الكآبة العظمى تتحقق حين تقبل بالعقل وتضحي بالعاطفة

 

كنت دائما أتساءل في منطقة العشار، مركز مدينة البصرة، حين أنظر إلى لافتات لأطباء متخصصين حاصلين على الدكتوراه والماجستير من لندن لماذا لم يبقوا هناك؟لماذا يعودون للعيش في العالم الثالث؟ لماذا يفتح عيادة في سوق شعبي صاخب؟ يقبض بالدينار العراقي بينما لو بقي بلندن لكانت أجور عملية واحدة تعادل عمل عام كامل بالبصرة.

 

متخصص من كامبردج وطبيب ولا يعرف أهمية تعليم أطفاله بلندن؟ هل هو غبي ليعود إلى بلاد يحكمها دكتاتور؟ كلمة واحدة منه بالخطأ قد تقوده إلى حبل المشنقة. ومع هذا يعودون إلى العراق فما الذي يعيدهم؟ إنها الرغبة في الاحتفاظ بالهوية.

 

نحن الذين اخترنا الهجرة علينا القبول بهذا العالم الجديد بشجاعة لأن مقاومة التحول الثقافي المصاحب لهذه الهجرة يعني العودة المتطرفة إلى الدين وانتشار الإرهاب. إذا لم يكن في الجيل الأول ففي الجيل الثاني.

 

الزمن لن يعود بحبيبتك الصغيرة لتعاملها بالطريقة التي كنت تتمنى. ولن يعود بابنتك الكبيرة لتحملها على كتفيك وتقفز بها العالم. لا شيء يعود وعلى الإنسان أن يقبل بقدره. كل شيء سيكون على ما يرام وعلى الإنسان أن يستقبل الحياة على حقيقتها وبصدر عار.

 

إن التفكير بالجنة هو رغبة في العودة إلى الوطن. رغبة في العودة إلى الشباب. وهذا ما يجعل من هذه الفكرة في المهجر ذات جاذبية كبيرة وقد تؤدي إلى انتشار عقيدة الموت والإرهاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *